الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

لمن يهمه الأمر سلام: "وامغصتي !!! النصيحة قطعت مصاريني"


(الإسلاميون) .. بين النوستالجيا واستحقاقات عودة الوعي
نُشر بتاريخ 5 ديسمبر 2012

"وامغصتي النصيحة قطعت مصاريني" عبارة بليغة شديدة الوقع عميقة الدلالة منسوبة للشيخ حمد النحلان "شايب الصوفية أب سماً فاير" دالة على صرامة واستقامة أخلاقية في قولة الحق وبذل النصيحة لاهل الشوكة حتى ذاع في ذكر فضله "واقع على ود الترابي" مثل سائر عند غمار الناس الباحثين عن نصير في ليل ظلم بهيم.
وقد أحسن استاذنا البروفسور البحاثة عبد الله علي إبراهيم وهو يستل هذه العبارة البليغة في غمرة تنقيبه العميق في التراث السوداني يقرأ به واقع الجدل السياسي في عهد دولة ما بعد الاستقلال في معرض أخذه على بعض الحداثيين من أهل اليسار تنكرهم وسعيهم للقطيعة مع الموروث المشكل لبنية مجتمعهم, ويثني على وعي الاستاذ عبد الخالق محجوب الذي ردد هذه العبارة ترديداً ذا مغزى على عبد الله حين التقاه عشية قرأها في مقالة له أواخر الستينيات, وقد وقعت عند الزعيم الراحل موقعاً حسناً ينم عن حصافة وحسن إدراك لقيم المجتمع السوداني الاصيلة وضرورة استصحابها ركيزةً لأي مشروع تغيير واع وجدي.
وجدت بعض العزاء في استلاف هذه العبارة البليغة, مع فارق المكانة الرفيعة لصاحبها, واتخاذها عنواناً رديفاً أضيفه لعنوان مقال قديم أعود إليه أسلي به النفس و"صراعات الإسلاميين" المستعرة لم تترك لنا ما نقول غير أن نعيد التذكير ببعض ما سطرنا في هذا المقام من قبل نحذر فيه من أن تبلغ الأمور إلى هذا الدرك السحيق, إذ ظللنا ندعو إلى مراجعة جذرية للفكرة والمنهج والممارسة قبل البحث عن إصلاح شكلي يستبدل وجوهاً بوجوه مما لا يفضي إلا إلى إعادة إنتاج مأزق الحركة الإسلامية التي ارتهنت مصير البلاد لغيبة الوعي وضبابية الرؤية وعجز الإرادة وفقدان الاستقامة.
استميح القراء عذراً أن نصوم هذا الأسبوع عن مقال جديد, إذ لا جديد, لنفسح المقام لهذا المقال الذي نُشر في هذا المكان في عدد إيلاف الصادر في 22 فبراير 2012. فقط للتذكير بأن المأزق الذي نعيشه اليوم ليس سوى صدى لتجاهل النهوض إلى مهمة تغيير حقيقي كان من شأنها أن تبعث بعض الأمل, وأن تقيل بعض العثرات ولكن هيهات, وما أصدق الشاعر الفارس عمرو بن معدي كرب:
لقد أَسمعتَ لوناديتَ حيّاً ** ولكن لا حياةَ لمن تُنادي
ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت ** ولكن أنتَ تنفُخُ في رَمَادِ

فإلى المقال: 
أين تكمن علة الحركة الإسلامية السودانية، ما داؤها وما هو دواؤها، وما هو سبب ورطتها الحقيقي، وهل من سبيل إلى مخرج من مأزقها العميق الحالي وما جره حكمها على البلاد والعباد، وكيف ذلك؟.
 تكاثرت أخيراً حمَّى المذكرات الاحتجاجية التي تداعى لها (الإسلاميون) بعد أن طفح الكيل ولم يعد من سبيل إلى الاختباء وراء حالة الإنكار واستمرار الصمت أو التغافل عن تبعات التيه الذي طال أمده وقد بانت عواقبه الخطيرة المنذرة أشد وضوحاً ليس بذهاب ريح حركة الإسلام السياسي في السودان فحسب، بل بتهديد وشيك غير مسبوق ينذر بذهاب ما تبقى من أوتاد الوطن.
 وشكراً لثورات الربيع العربي، وللشباب الذي أطلقوا شرارتها، إذ لولاهم لما اكتشف (الإسلاميون السودانيون) أن رياح التغيير والحرية والثورة على الاستبداد التي عمت المنطقة فضحت ذرائعية وضحالة المشروع السياسي لـ(الحركة الإسلامية السودانية) إذ ضبطتهم متلبسين بالوقوف في الجانب الخاطئ والخاسر من التاريخ، وزاد الأمر ضغثاً على إبالة أن الحركات الإسلامية في المنطقة التي شهدت صعوداً سياسياً غير مسبوق بمشروعية شعبية حقيقية مستفيدة من الرهان الصحيح على الحرية تجافت كلها عن تجربة رفيقتها السودانية وأنكروها ولم يروا فيها بفعل كثرة جرائرها ما يدعو إلى التأسي بها، وفضلوا الاقتداء بتجرية حزب العدالة والتنمية التركي يفتخرون بها على الرغم أن نجاحها تم في حاضنة علمانية، ولعل أبلغ شهادة سلبية وإدانة تاريخية في حق التجربة السودانية ما شهدت به رصيفاتها وكلها تنأى أن تُوصَمَ بها وبعضها كحركة النهضة التونسية كانت تُعد ذات يوم من مدرستها.
 وشكراً لاستقلالِ دولةِ جنوبِ السودان، الذي صادف عام الربيع العربي وتحولاته، فقد كشف على مضاضته أكبر جرائر حكم (الحركة الإسلامية) كافة، فالمشروع الذي برر لنفسه أخذ السلطة بالتغلب بدعوى إنقاذ البلاد انتهى إلى نقيض تعهدات بيانه الإنقلابي الأول تماماً حتى أن أحداً من قادة الحكم لن يجرؤ اليوم على ذكر بند واحد منها، فتقسيم البلاد تم دون تحقيق السلام الموعود، المقابل الذي كان ينتظر ان يكون مقبولاً شيئاً ما، في أكبر رهان خاسر عرفته طبقة حاكمة تصرفت في حقوق السودانيين بأجندة ذاتية بلا خشية من تبعة، وتوالت سِراعاً تَبِعاتُ التقسيم التي أدخلت البلاد في نفق ضيق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، والمفارقة أن لا أحد هناك من المسؤولين الحاكمين يبدو مستعداً لتحمل المسؤولية السياسية والوطنية والأخلاقية بعد كل ما جرى، ويتصرفون ببرودة يحسدون عليها كالمعتاد كأن شيئاً لم يحدث.
 على كثرة المذكرات الاحتجاجية في الآونة الأخيرة وسط قطاعات واسعة من (الإسلاميين) التي تحمل ارهاصات بداية صحوة من غيبة وعي طالت لعقدين ونَيِّف، وبدأت تشهد تَحوُّلاً من مجردِ حالةِ تململٍ وتَذَمُرٍ من الأوضاع الراهنة إلى حالة حَرَاكٍ لا يزال يتلمَّس طريقه للتشكُّل ويحتاج إلى وقت ليتبيَّن مداه واتجاهاته وتأثيره الفعلي في مجرى الأحداث، ومع ذلك فقد أولت اهتماماً جد محدود لتشخيص عميق لجذور أزمة (الحركة الإسلامية) وانعكاستها السلبية البالغة الخطورة على مصير البلاد ومستقبلها، وافتقدت لطرح جديد جريء لاستراتيجية خروج عاجلة من النفق المظلم الذي تكابده البلاد.
 تجنح غالبية (الإسلاميين) إلى تحميل تلك الفئة المسيطرة حالياً على مفاصل سلطة (الحاءات الثلاث)، الحركة والحزب والحكومة، وهم للمفارقة الوجوه نفسها على تعاقب فصول السنوات العشرين الماضية وتقلباتها السياسية، باعتبارها الطرف الوحيد المسؤول بالكامل عما آل إليه سوء الحال والمُنْقَلَب الذي حاق بالحركة الإسلامية حتى بات السؤال عن حقيقة وجودها فعلاً مثاراً بقوة، وأحاط بالبلاد وأورثها هذا الوضع المأزقي المنذر بعواقب لا يعلم مداها إلا الله، ويذهبون في تشخيص الأزمة إلى أنها نتيجة لانفراد هذه الفئة بالأمر واستئثارها بالسلطة وتحكمها بالقرار في مصائر البلاد والعباد، وتجاهلها لمرجعية الحركة، وأن ذلك هو أس كل البلاء، وأن الحل يكمن في إعادة إحياء الحركة الإسلامية واستعادة وحدتها ودورها المرجعي وتجديد القيادات.
 وفي الواقع فإن هذا النمط من التفكير الغالب في أوساط (الإسلاميين) يعكس اتجاهاً محافظاً وعقلية تقليدية لا تبدو مدركة لحجم فقدان المصداقية الذي لحق بالحركة، ولا تبدو مستعدة لإصلاحات جذرية، بل تنكفئ على مسعىً واحدٍ واضحٍ يهدف بالأساس للمحافظة على الوضع الراهن مع إدخال بعض التحسينات الشكلية وتبديل في الوجوه تحت لافتة تغيير محسوب، محدود الأفق، ومنخفض السقف للغاية.
 ومشكلة هذا الاتجاه (الإصلاحي المحافظ) تكمن في أنه مع إحساسه بخطورة ما آلت إليه أحوال السودان بعد ربع قرن من سيطرة (الإسلاميين) المطلقة على الحكم في البلاد، وإدراكه أن أسباب استمرار وجود النظام تآكلت، وأن فرصه في البقاء آخذة في النفاد، حتى اضطر للتحرك ولو متأخراً في محاولة لا تخلو من عراقيل لتدراك ذلك وتبعاته، ومع ذلك لا يبدو أنه يدرك بصورة جيدة أن المطلوب للخروج من هذا المأزق المصيري أكبر بكثير من محاولات إصلاح محدودة وخجولة لا تخلو من السطحية والمظهرية، ولا تكاد تلامس جوهر الأزمة.
 ومن الخفة بمكان أن ينظر للأمور بعد كل هذه السنوات الطويلة من التجربة المتعثرة للحكم وكأن الأزمة هي مجرد مشكلة تنظيمية تتعلق بمغالطات حول وجود الحركة الإسلامية الفعلي، أو دورها المرجعي المفقود أو المسلوب، أو احتكار فئة للقيادة واستئثارها بالسلطة، الواقع أن هذا كله صحيح جزئياً، ولكنها تبقى مجرد نتائج عرضية، وأعراض لمرض دفين، وليس بأي حال من الأحوال أسباباً حقيقية لجوهر الأزمة، فأزمة الحركة الإسلامية الحقيقية التي ينبغي الاعتراف بها هي أزمة فكرية ومنهجية بالأساس ترتبت عليها ممارسة ذرائعية وميكافيلية للسياسة تحت لافتة شعارات إسلامية براقة دون التقيد بما يمليه الوازع الديني أو الأخلاقي المكافئ لمن يتجرأ على رفع مُثل الإسلام التي تتطلب درجة عالية من الالتزام والحس الأخلاقي والضمير الحي.
 ومأزق الحركة الحقيقي ليس وليد اليوم، فالنتائج الكارثية التي انتهت إليها وتواجه تبعاتها الآن تعود جذوره إلى ذلك التصور الفطير المحدود الأفق الذي تبنته باعتباره النموذج الإسلامي الوحيد المعتمد الذي تسعى لتطبيقه في السودان بلا وعي عميق بطبيعة تركيبة البلاد المتعددة الأعراق والثقافات والديانات، وبلا تجديد فكري واسع الأفق يستوعب هذا التعدد والتنوع ويستفيده في إرساء تجربة إنسانية ثرية تقوم على هدي الدين وتسامحه وسعته، لقد ذاع عن الحركة الإسلامية السودانية أنها حركة تجديدية، لكن إن بحثت فلن تجد لهذا التجديد المزعوم من آثار فكرية اللهم إلا من شذرات لم يثبت أبداً أنها كانت بحجم تحديات الواقع الاجتماعي في السودان ولا في مستوى تعقيداته، ولا شيء أدل على ذلك أن حصيلة ربع قرن من سيطرة الحركة على السلطة في البلاد هذه الحالة غير المسبوقة من الإنكفاء إلى القبلية والعنصرية والجهوية أدت إلى تقسيم البلاد وتنذر بالمزيد من التشرذم، وهو أمر لم يحدث اعتباطاً ولكنه نتيجة لسياسة مدروسة في إطار لعبة السيطرة على السلطة.
 كان كعب أخيل (الحركة الإسلامية السودانية) هذا الولع الشديد والمبكر بلعبة السياسة والتعجل للوصول إلى (السلطة) واعتبارها الطريق الأسهل والأسرع إلى إحداث التغيير الذي ترفع شعاراته متعجلة تحقيقه وفي حسبانها أن (السلطان) أمضى من (القرآن) وأفعل. وما كان في أمر الاهتمام بلعب دور سياسي مؤثر من بأس لو أنها التزمت طريقاً مشروعاً وممارسة تتفق وقيم ومقاصد الإسلام الذي ترفع راياته، وأن تظل السلطة مجرد وسيلة لتحقيق مشروعها وليست غاية في حد ذاتها. وقد تيسر لها أن تكون طرفاً فاعلاً في الساحة السياسية السودانية بدرجة أكبر بكثير من حجمها الجماهيري الحقيقي ما بين عقدي الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبدت فرصها السياسية تزداد مع كل احتكام شعبي انتخابي.
 وستبقى خطيئة (الحركة الإسلامية) الكبرى وجنايتها التي لا تغتفر إقدامها على الإنقلاب العسكري في العام 1989، ولست هنا بصدد تقييم مبرراته ولا الموقف الأخلاقي للإنقضاض على نظام ديمقراطي كانت طرفاً فاعلاً فيه ومسؤولة عن حمايته والدفاع عنه وليس الإنقلاب عليه، ولكن أركز هنا عن جنايته على الحركة نفسها وما جره عليها، حيث تُقال الكثير من الأسباب من قبل قيادة الحركة في تبرير هذا الانقلاب، وبغض النظر عن وجاهة تلك المبررات حينها، ولو افترضنا جدلاً بأنه لم يكن هناك من سبيل لتفاديه، وأنه تم بموافقة وتراضي واسع من قادة الحركة إلا نفر قليل اعترضوا عليه، وأنه وجد حماسة كبيرة وتدافعاً لنصرته من قبل معظم أفراد الحركة، ومع تقدير كل تلك الحيثيات إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أنه قد جفت صحف ورفعت الأقلام ولا مجال لفتح هذا الملف وإعادة تقييمه والاعتبار بتجربته وأخذ العبرة والدروس منه، فالعبرة بالنتائج الفعلية والتبعات التي ترتبت عليه، ولا تكفي النيات مهما حسنت لطي صفحته، كما لا يمكن المكابرة وعدم الاعتراف بأنه الخطيئة الكبرى التي أسست لكل ما تلاه من خطايا، وأنها مهما عظمت فليست سوى ثمرات مُرَّةٍ للخطيئة الأولى.
 فقد كان المضي في طريق الإنقلاب قرار انتحاري قصير النظر، ربط مصير الحركة بقنبلة السلطة الموقوتة، لقد كان طريقاً ذا اتجاه واحد رهنت فيه الحركة الإسلامية مصيرها النهائي بمصير سلطة إنقلابية، وعندما تصل إلى السلطة بقوة السلاح فلا سبيل للمحافظة عليها إلا بالقوة، وستبدو أية محاولة لاحقة لإضفاء مشروعية شعبية عليها أمراً هزلياً بامتياز، وعندما تتحول المعركة إلى معركة وجود وبقاء بقوة السلاح وعنف السلطة وليست معركة من أجل القيم الإسلامية المرفوعة، فالنتيجة معروفة تذبح كل القيم الفاضلة على عتبة المحافظة على السلطة بأي ثمن لضمان البقاء في سدتها، وللمفارقة باسم الإسلام نفسه تُكبَّلُ الحريات، وتُنتَهَكُ الحرمات، وتُزهَقُ الأنفس، ويُحارب الخصوم في أرزاقهم وقائمة تطول ولا تنتهي من الأفعال التي يندى لها الجبين، وتبدأ دائرة جهنمية مفرغة في معركة بقاء لا تنتهي من أجل السلطة التي تحولت من وسيلة إلى غاية في ذاتها.
 يحتج نفر من (الإسلاميين) بأن الحركة كانت أكبر ضحايا انقلابها، وأن قادتها انقلبوا إليها وحلوها، أو أحالوها إلى التقاعد لا يستدعونها إلا عند الملمات، وحكموا باسمها وتركوهم يتحملون المسؤولية عن كل الأخطاء التاريخية الكارثية دون أن يكونوا شركاء حقيقيين في اتخاذ القرار، وهذا صحيح ولكن المشكلة هنا ليست في قادة الحركة وحدهم ولا يعني ذلك إعفاءهم من المسؤولية، ولكن تلك هي قواعد اللعبة ف(الإسلاميون) لم يتخذوا موقفاً مبدئياً ضد الانقلاب بل اعتبروه مشروعاً، وعدوا الوصول إلى السلطة والسيطرة عليها بالتغلب إنجازاً ومكسباً لا يمكنهم التنازل عنهم ولم يجدوا مندوحة حتى في الإطاحة بعراب النظام وزعيم الحركة من أجل الحفاظ على هذا الوضع، وليس لهم أن يحتجُّوا بعد ذلك إنْ ذاقوا من الكأس نفسه، وتَوَجَّبَ عليهم دفعُ ثمنِ غفلتِهم تلك، والذين استاءوا من رسالة الرئيس البشير للساعين إلى استعادة مرجعية الحركة التي رفض فيه الوصاية على الحزب الحاكم ولو من الذين أتوا به ينسون أن الحركة هي التي صنعت شرعية البندقية وكرستها، وليس لها اليوم أن تحتج عليها وعلى تبعاتها المنطقية وقد انقلب السحر على الساحر.
 وما من سبيل أمام (الإسلاميين) اليوم إلا التحلِّي بالشجاعة الكاملة، والوعي العميق، والأفق الواسع لإجراء مراجعة جذرية شاملة بداية من الأفكار المؤسسة للتيار الإسلامي وتصوراته الأساسية تأخذ في الاعتبار نتائج هذا الفشل الذريع للغارة الانقلابية التي جاءت وبالاً عليهم وعلى البلاد، ليس مطلوباً من (الإسلاميين) أن يكونوا ملائكة لا يخطئون، أو لا يسيئون التقدير، ولكن المطلوب بالتأكيد أن يكون هناك استعداد للتحلي بفضيلة المراجعة الحقيقية والاعتراف بالأخطاء وإعمال النقد الذاتي الامين، والعمل على إصلاحها بجد واجتهاد، وتعاليم الإسلام تهدي إلى أن (خير الخطائين التوابون)، والتيار الإسلامي سيظل موجوداً لا يمكن شطبه أو إلغاء دوره أو محوه، ليس بأشخاص بعينهم بالضرورة أو بهذه اللافتة أو تلك، وسيظل هناك من يدعون لتيار إسلامي رشيد لأنه يعبر عن أفكار وتوجهات لها جذور أصيلة في المجتمع السوداني، بيد أن أيَّ دور مستقبلي يعتمد في قيمته أو مداه، وقبل ذلك القبول به شعبياً، على القطيعة مع هذه النزعة الانقلابية على قيم الدين قبل أن تكون على الشرعية السياسية فقط من أجل الحصول على السلطة والمحافظة عليها بأي ثمن.
 وهذه المراجعة الحتمية للفكر الإنقلابي، ونبذه، والعمل على محو آثاره ورد الحقوق إلى أهلها، ليس ترفاً أو مما يمكن القفز عليه لِلَعب أي دور مستقبلي، أو الاكتفاء بالاختباء وراء عملية ترقيع سطحية تعنى بتبديل الوجوه والسحنات دون أن تغوص في عمق أسباب الأزمة. لأنه أصل وأساس كل المفاسد التي توالت لاحقاً، وليس لأحد أن يستغرب ذلك أو يغالطه، فالسلطة بطبعها تفسد فما بالك حين تكون سلطة مطلقة لا حسيب ولا رقيب عليها، كما ذهب إلى ذلك لورد آكتون ( السلطة تميل إلى الإفساد، والسلطة المطلقة مفسدة بالمطلق، والرجال العظام يسيئون غالباً في ممارستهم التأثير حتى دون سلطة، زد على ذلك الفساد الناتج عن السلطة المطلقة)، أليس في هذا التشخيص عبرة إذا كان لورد آكتون يتحدث عن حال السلطة في بلد ذي تقاليد عريقة في الديمقراطية كبريطانيا العظمى.
 ولم يذهب معاصره المصلح الإسلامي الكبير عبد الرحمن الكواكبي، الذي توفي في العام 1902 وهو العام نفسه الذي توفي فيه لورد آكتون، بعيداً عندما خلص في سفره العظيم (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) إلى نتيجة مماثلة بأن الاستبداد السياسي هو أصل داء الانحطاط في العالم الإسلامي، (ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية) على حد تعبيره. ويصف الاستبداد بأنه (صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شؤون الرعية بلا خشية حساب ولا عقاب محققين، وبلا إرادة الأمة).
 لقد أثبتت التجربة السودانية أن (الإسلاميين) وقادتهم على وجه الخصوص بشر عاديون ممن خلق الله، لم يمنحهم مجرد رفع شعارات إسلامية أية حصانة أو امتياز أخلاقي أو حماية من الوقوع في براثن مفاسد السلطة المطلقة، صحيح ان الإسلاميين ليسوا سواءً فمنهم من بلغه به الإيثار حد التضحية بنفسه من أجل المشروع الذي آمن به، بيد أن المفارقة جاءت من القادة الذين غلبت عليهم الإثرة فبدلاً من أن يستفيدوا من رصيد التضحيات الكبيرة هذه في إرساء القيم والحكم الراشد، حولوها إلى وقود لتحقيق المطامح الشخصية واحتكار السلطة والاستئثار بمكاسبها ومغانمها.
 ولو كان من درس بليغ وحيد من هذه المقامرة الخاسرة بالرصيد الأخلاقي للمشروع السياسي للحركة الإسلامية السودانية، فهو أنه لا سبيل لأي صلاح أو فلاح لأي مشروع سياسي إسلامي أو إنساني كان ما لم يقم على مبدأ الحرية، حرية الأمة في تقرير إراداتها الحقيقية واختيار من يحكمها بلا وصاية تحت أية ذريعة كانت، فإذا كان الخالق عز وجل أعطى لعباده الحرية حتى في حق الكفر به فلا يملك أي أحد أن يزايد على الخالق، ويا للجرأة باسمه تعالى.
 المطلوب من (الإسلاميين) الخروج من حالة النوستالجيا التي يحاولون بها استعادة التنظيم الموءود ومرجعيته المسلوبة لأن ذلك لن يغير شيئاً بلا مراجعة فكرية جذرية حاسمة، واعتراف بداء الاستبداد الذي جلبه الانقلاب، والعمل على إصلاح حقيقي يبدأ بأداء الأمانة إلى أهلها، إلى الشعب السوداني ليختار بكامل حريته وملء إرادته نظامه السياسي، وتحمل المسؤولية عن أية تجاوزات، وفي وقت تدهمنا فيه مخاطر متسارعة لا تحتمل ترف الانتظار واللجاج في معركة انصرافية، تبقى الفريضة الواجبة المطلوب أداؤها بإلحاح إنقاذ الوطن، وليس إنقاذ الحركة الإسلامية.

الاثنين، 3 ديسمبر 2012

أبيي .. حافـة الحرب وإرادة السلام

لا شيء أدل على مدى تعقيد قضية أبيي وابعادها الشائكة وصعوبة التوصل بشأنها الى تسوية مرضية للاطراف المعنية، من أن مفاوضي عملية السلام السودانية، الذين اعياهم الاتفاق حتى على أدنى حد من التفاهم حول أسس تسويتها، أنهم لم يجدوا مناصاً من الاحتكام الى مقترح امريكي بعنوان «مبادئ الاتفاق بشأن أبيي» تقدم به عراب عملية السلام المبعوث الرئاسي الامريكي حينها الشيخ جون دانفورث للطرفين اللذين اعلنا اتخاذهما هذه المبادئ اساساً لحل النزاع بشأن أبيي، حسبما ورد نصاً في ديباجة بروتكول حسم النزاع في أبيي، في إقرار واضح بأنهما وصلا الى طريق مسدود بشأن فرص التوصل الى اتفاق مبدئي.
وعلى الرغم من أن الطرفين وقعا بروتكول حسم النزاع في أبيي في 26 مايو 2004م، إلا انهما عادا واتفقا على ملحق له في 31 ديسمبر 2004م تضمن اتفاقاً بشأن «التفاهم حول مفوضية حدود أبيي» بشأن تشكيل عضويتها وإجراءاتها، وتضمن طلباً من الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة و«إيقاد» ترشيح خمسة خبراء محايدين ذوي دراية ومعرفة بالتاريخ والجغرافية وأية خبرة أخرى ذات صلة. ويرأس أحد هؤلاء الخبراء «مفوضية حدود أبيي".
ما أهمية ما اوردناه آنفاً؟ القصد أن نعيد تحرير مأزق أبيي الراهن وإعادته الى منصة التأسيس وتحديد المسؤوليات. فالانشغال بالتبعات والتداعيات الأمنية والعسكرية يحجب الرؤية عن تشخيص الاسباب الحقيقية لما آلت اليه الامور، فالتطورات العسكرية الاخيرة ليست في الواقع سوى انعكاس لانسداد افق التسوية السياسية التي كانت مرجوة، ولذلك فهي نتيجة وليست سبباً في الاحداث الحالية.
ولعل اول ما يحتاج الى التأكيد عليه في هذا الخصوص محورية الدور الامريكي في مسألة أبيي ومسؤوليتها المباشرة عن تداعياتها الراهنة المنذرة بإفشال عملية السلام برمتها، والوقوف على حافة العودة الى الحرب بين الشمال والجنوب، بالطبع ليس الغرض من هذا تبرئة الاطراف المحلية من المسؤولية، ولكن الإحاطة بخلفية مقترح التسوية تشير الى حقيقة اساسية وهى أن البون الشاسع بين موقفي الشمال والجنوب حيال الموقف من حل قضية أبيي كان ولا يزال امراً جلياً ومعلوماً، ولذلك احتكما الى الدور الامريكي وقبلا رعايته لمقترح التسوية، وعولا عليه في لعب دور نزيه للوصول الى حل يحظى بالقبول مع الاخذ في الاعتبار التعقيدات العميقة المحيطة بالقضية الى درجة جعلتها تتميز بهذه الوضعية الخاصة في اتفاقية السلام من بين بروتكولاته الستة وكذلك استدراكه بملحق خاص في وسائل وترتيبات التفنيذ.
وهذه الحقيقة الاساسية بشأن الصراع على مصير أبيي بين الطرفين هى تحديداً التي جعلت للولايات المتحدة الامريكية هذه الوضعية الخاصة برضاء الطرفين، ولكن السؤال هنا هل قامت الولايات المتحدة المعول عليها بالدور المطلوب، ليس في شأن دور الشريك النزيه في رعاية التنفيذ الامثل لاتفاقية السلام الشامل وهى الضامن الرئيس للتسوية فحسب، بل في حلحلة مسألة أبيي، صحيح أن الطرفين هما المعنيان بتنفيذ إجراءات المقترح الامريكي الذي تبنياه، ولكن الصحيح أيضاً أن طبيعة المشكلة وتعقيداتها التي افرزت هذا المسار واقتضت بالضرورة دوراً ومسؤولية امريكية تجعلها في موضع مساءلة ومحاسبة سياسية عن مدى التزامها بالقيام بالواجب المناط بها في هذا الخصوص، بمعنى أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية سياسية واخلاقية في مسألة أبيي على وجه التحديد، كما هى محل تساؤل الى أى مدى نهضت بدورها بما يعزز استدامة السلام، او الى اى حد تقاعست عنه او تعاملت معه على نحو يفتقر الى النزاهة المطلوبة بما يعني أنها تتحمل قسطاً من المسؤولية في انزلاق الامور مجدداً نحو حافة هاوية الحرب.
وفي الواقع أن الدور الامريكي غلبت عليه السلبية في دعم عملية السلام، على الرغم مما توحي به كثرة تحركات المبعوثين الامريكيين المتعاقبين من جهود ظاهرها تعزيز عملية السلام، وهو ما يتجاوز محض التوقيع على اتفاقيات التسوية الى رعاية بذرتها تحت أجواء ملائمة تجعل شجرة السلام تنمو وتزدهر، فواشنطن انفردت بدور كبير واستثنائي يميزها عن غيرها من دول كثيرة أسهمت في جهود السلام السودانية.
ومن المؤكد أن التوصل الى تسوية سياسية للحرب الاهلية المتطاولة في السودان بين الشمال والجنوب، بقدر ما أنه قصة نجاح للاطراف السودانية، فقد مثل كذلك قصة نجاح للولايات المتحدة الامريكية، وعلى وجه الخصوص للإدارة لامريكية في عهدي الرئيس جورح بوش الابن، وكانت قمة المفارقة أن إدارة بوش الابن التي عرفت بإشعال الحروب التي أثارت الانتقادات في كثير من أنحاء العالم، كانت هى ذاتها التي رعت عملية السلام في السودان لتنجح في تحقيق مسعى بدا مستحيلاً في كثير من الاوقات على الرغم من المبادرات المتعددة والجهود الكثيرة التي بذلت في هذا الصدد.
لقد كان بوسع إدارة بوش، ثم إدارة أوباما أن تكمل قصة النجاح هذه إلى نهايتها عبر التمسك بدور الوسيط النزيه والحريص على تعزيز إرادة السلام وتحقيقه من أجل السودانيين جميعاً، ولكنهما تذكرتا لوعودهما بتطبيع العلاقات، خاصة إدارة بوش التي تعهدت بها إغراءً لقادة المؤتمر الوطني للمضي قدماً في التوصل الى اتفاق سلام بتنازلات كبيرة، وغيرت واشنطون دورها من راعٍ لعملية السلام ووسيط رضي به الطرفان الى وصي عليها، واعطت نفسها دون مبررات موضوعية حق الانحياز لطرف على حساب الطرف الآخر دون الاعتبار لتبعات ذلك. وبدت الادارة الامريكية مهتمة بالتأثير على الخيارات السياسية للمؤتمر الوطني بأكثر مما بدت مشغولة بتعزيز أركان السلام في السودان، تسند في ذلك على حجج واهية تحاول الاصطياد في الماء العكر لا تنتظر دليلاً عليها، وهى تعلم سلفاً أن الخرطوم خطبت ودها واعطتها اكثر مما توقعت حتى أنها لم تسبق شيئاً.
ومن المؤكد أن للولايات المتحدة مصالحها وحساباتها، وهى دولة كبرى وقوة شبه وحيدة في موازين القوى الدولية في عالم اليوم، ولا احد يتوقع بالطبع ان تخضع لاعتبارات المنطق الاخلاقي في مواقفها السياسية، فهى لا تكيل بمكيالين فحسب، بل تتصرف بأكثر من مكيال حسب مقتضيات مصالحها، ومأزق السياسة الامريكية يبرز ظاهراً حين تحاول أن تحاكم المواقف السياسية للآخرين باعتبارات أخلاقية وتحتكر لنفسها رسم حدود معايير الحقوق الإنسانية وحق حمايتها.
ومن المفارقات اللافتة في شأن الرعاية الامريكية لعملية السلام السودانية، فضلاً عن عدم قيامها بواجب الرعاية كما ينبغي في تجاوز مطبات تنفيذ بنود الاتفاقية، فإنه حتى ما بدا منها انحيازاً للجنوب فإنها في الحقيقة فعلت القليل جداً مما يحسب في خانة دعم ومساندة المواطن الجنوبي لتجاوز آثار الحرب، وإعادة حياته الى طبيعتها، وهناك الملايين من النازحين واللاجئين الذين مازالوا بعد أكثر من ست سنوات من توقيع الاتفاقية لم يذوقوا شيئاً من ثمرات السلام استقراراً، ومازالوا يرزحون تحت نير الفقر والجهل والمرض، صحيح انفقت بعض الاموال هنا وهناك، واقيمت بعض المشروعات المحدودة، لكنها لا ترتقي ابداً حتى لادنى التطلعات التي كانت يرجوها مواطنو الجنوب من السلام، وحتى الدعم الامريكي لحكومة الجنوب على قلته ظل معنياً بتقوية آليتها العسكرية والحربية بأكثر من عنايته بمشروعات البنية الاساسية، فالجنوب مقبل على إقامة دولة بلا رصيد حقيقي من بنية لازمة لتأسيس الدولة، أليس في ذلك دليل على خطل السياسة الامريكية تجاه السودان بغض النظر عن دعمها لهذا الطرف أو ذاك، فحتى اهتمامها الجنوب يبدو اقرب لقصة الدبة التي قتلت صاحبها، فلا هي دعمته فعلياً حتى ينهض على رجليه، ولا هى أسهمت في تعزيز السلام وتقوية الثقة بين أطرافه.
ومشكلة الإدارة الامريكية في ردود فعلها على التطورات الاخيرة في أبيي، سواء تلك التي صرحت بها المندوبة الامريكية لدى الأمم المتحدة سوزان رايس في الخرطوم، أو تلك التي ادلى بها مبعوثها الرئاسي برنستون ليمان التي حذرا فيها من عرقلة خريطة طريق خطوات التطبيع او حتى التلويح باستخدام الفصل السابع للميثاق الأممي، تؤكد ان واشنطن لم تتعلم شيئاً من تجربتها في السودان، وبدلاً من مراجعة سياساتها السلبية حيال عملية السلام حتى بدت تطل مجدداً نذر عودة الحرب، عمدت الى الاسلوب ذاته بفرض المزيد من الضغوط والتلويح والتهديد التي لم تثبت نجاعتها، وكما يقال فإن الغريق لا يخاف من البلل، كما أن التطبيع مع واشنطون لم يعد بذي نفع في هذه المنطقة من العالم التي تهاوى فيها اخلص حلفاء واشنطون كأوراق الخريف تحت ناظريها ولم تستطع الى نجدتهم سبيلاً ولا حيلة.
والمطلوب من الإدارة الامريكية أن تراجع حساباتها في شأن السودان، ومعلوم أن القرار الامريكي يخضع للكثير من الحسابات المعقدة والمصالح المتشابكة، لكن في نهاية الأمر فإن الإدارة هى المعنية بتشكيل وتنفيذ السياسة الخارجية، ولا أحد يريد حقاً إلغاء الدور الامريكي، ولكن المطلوب من الادارة ان تتعاطى مع الوضع في السودان كما هو متوقع من دولة كبرى، فالاستقرار والسلام مطلوب ليس لصالح هذا الطرف الحاكم او ذاك، بل لأنه مطلب يهم الشعب بالدرجة الاولى في شمال السودان أو في جنوبه، ولا يجب لهذه القضية الحيوية أن تخضع لأجندة جماعات الضغط التي لا يهمها إلا تصفية حساباتها السياسية حتى ولو على حساب السلام، فالمطلوب فقط من الإدارة الامريكية أن تكون وسيطاً نزيهاً تعمل على إطفاء الحرائق لا تجاهل المعطيات الموضوعية حتى لا تقود الى إشعال الحرب مجدداً. ولعل المصادفة وحدها هي التي قادت لأن يهبط وفد مجلس الأمن الدولي الى الخرطوم في الوقت الذي كان فيه انسداد الأفق السياسي لايجاد تسوية للنزاع حول أبيي بلغ حداً جعل أصوات القاذفات والصواريخ أعلى صوتاً من صوت المفاوضات التي دخلت دائرة مفرغة من التجميد الفعلي، ومن المؤكد أن إقدام القوات المسلحة السودانية على بسط سيطرتها عسكرياً على أبيي هى خطوة خلطت بلا شك أوراق اللعبة، ولكن في كل الأحوال كانت هناك حاجة حقيقية للفت نظر المجتمع الدولي الى أن قضية أبيي العالقة بلا حل، لا تهدد استدامة السلام وتعزز فرص استعادة الحرب فحسب، بل ويمتد تأثيرها السلبي إلى درجة عدم إبرام اتفاقات نهائية حتى في تلك الشؤون التي حدث فيها تقدم في شأن بعض القضايا المتعلقة بترتيبات فك الارتباط بين دولتي الشمال والجنوب، وعلاقات التعاون المرجوة لمرحلة ما بعد الانفصال.
وما من شك أن المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة بالتأكيد، تقاعس بدرجة كبيرة عن إيلاء عملية السلام السودانية العناية النزيهة التي تستحقها، وهى التي أنهت واحدة من أكثر الصراعات الاهلية مرارة، وقد كانت تعد في طليعة اطول حروب القارة الافريقية عمراً، ولئن كانت هناك حجج تساق من قبيل أن الدولة السودانية لا تعوزها الموارد المالية من العائدات النفطية في شأن تبرير عدم وفاء المجتمع الدولي بتعهداته في مؤتمري اوسلو الاول والثاني ولم تسجل للمانحين اسهامات ذات جدوى في إعادة البناء او تأسيس بنية اقتصادية تعزز السلام، حتى في الجنوب الذي لا شك أنه في حاجته الماسة لذلك، إلا انه ليس مفهوماً ولا مبرراً اكتفاء المجتمع الدولي بإصدار المواقف او الاحكام الاخلاقية في مواجهة هذا الطرف او ذلك دون أن ينخرط بصورة فعليه في دعم عملية السلام بما يتجاوز التصريحات التي لا تضيف شيئاً، والمجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن لا يملك خيار أن يقف متفرجاً وقد تعهد بأن يكون ضامنا لاتفاقية السلام الشامل، ويملك بعثة ضخمة لدعم عملية السلام في السودان ليس واضحاً حجم الدعم الايجابي الحقيقي الذي قدمته بأكثر من دور المراقب، وهو دور ليس كافيا ولا حاجة كبيرة له في ظل إثبات طرفي الاتفاقية مع كل خلافاتهما التي اظهراها إبان الفترة الانتقالية انهما على التزامهما بعملية السلام.
لقد واجه المجتمع الدولي وضعاً محرجاً إبان زيارته للخرطوم، ليس فقط بتطور بسط السيطرة العسكرية للجيش على أبيي، بل كذلك بحالة العزلة السياسية عير المسبوقة من طرف الحكومة حين حُرم من موافاة جدول اعماله في الخرطوم بامتناع نائب الرئيس ووزير الخارجية من الاجتماع الى الوفد، لقد جاءت تصريحات قادة وفد مجلس الأمن باهتة بدرجة لا ترقى الى حجم ما كان منتظراً منه في ظل تطور بهذه الأهمية، فتوزيع الإدانات والانتقادات أولاً للحركة الشعبية على مهاجمتها للقوة المنسحبة من القوات المسلحة والقوات الدولية، ثم انتقادها لعملية القوات المسلحة والطلب منها الانسحاب من أبيي، ثم عدم طرح اية مبادرة جديدة بشأن حلحلة مأزق أبيي تضع في الاعتبار الحاجة الملحة الى ذلك، تثير كلها تساؤلات حول مدى جدية مجلس الأمن الدولي في الحفاظ على استدامة السلام في السودان، وتضع التزامه على المحك، فالاكتفاء بدور سلبي في هذه المرحلة الحساسة يهدف فقط إلى حث طرفي عملية السلام على إعادة الأمور كما كانت عليه، هو أقل من المتوقع من المجتمع الدولي.

عن صحيفة (إيلاف) السودانية
25 مايو 2011

الاقتصاد السوداني.. أخيراً خبر جيد، النفط خارج الحسابات ..

يقترب موعد التاسع من يوليو، عندما يصحو السودانيون على واقع نشوء دولتين على أرض وطنهم بكل تعقيدات وتبعات وتداعيات هذا الحدث الجلل، لاسيما على صعيد أوضاع الاقتصاد، المجال الاكثر تأثرا مباشرا وعاجلا، ومع دنو هذا الموعد بات الوعي الرسمي والشعبي على حد سواء يزداد تبينا من حجم وتكلفة فاتورة الانفصال، بصفة خاصة فقدان العائدات النفطية التي كانت تؤمنها اتفاقية قسمة الثروة مما يتسبب في صدمة اقتصادية يتفق المحللون على حتمية حدوثها، وان تباينت تقديراتهم شأن مدى فداحة ثمن الانفصال وحجم توابع زلزاله.
ولئن بدا واضحا حتى قبل اسابيع قليلة من هذا الموعد ان الامور ابعد ما تكون عن اتفاق بين الطرفين على خريطة طريق لانفصال سلمي وهادئ وسلس على خلفية عدم التوصل الى اتفاق لحسم مسألتي أبيي وترسيم الحدود العالقتين من بنود اتفاقية السلام، ثم حالة الجمود وكذلك تباعد المواقف بشأن بعض قضايا فك الارتباط بين الدولتين الوليدتين.
فإن أياً من الطرفين لا يملك ترف الانتظار على الجبهة الاقتصادية لوقت مفتوح مثلما تملك الجبهة السياسية لقطف ثمار سياسة التصعيد على حافة الهاوية التي شهدتها الجبهة العسكرية في مسألة أبيي.
والانطباع السائد ان حقبة ما بعد التاسع من يوليو ستحمل أنباء سيئة للاقتصاد السوداني، والمعني هنا بالطبع الشمال، وتقوم الافتراضات على انه سيدخل في أزمة عميقة، وحسب تصريحات نسبت للدكتور صابر محمد حسن، محافظ البنك المركزي السابق، فان حدوث صدمة اقتصادية في البلاد عقب انفصال الجنوب ستكون امرا واقعا، وصفها بانها تفوق تأثير الأزمة المالية العالمية. ما لم يتم تداركها باصلاحات رئيسية في هيكل الاقتصاد السوداني.
والسؤال الذي يثير حيرة السودانيين جميعا، وكذلك المهتمين من خارج السودان، لماذا يظل الاقتصاد السوداني مأزوما ومتى يكتب له الخروج من هذه الدائرة المفرغة؟ وكيف لبلد يملك كل هذه الموارد الطبيعية الضخمة ان يكون مدرجا ضمن لائحة الدول الاقل نموا في تصنيف الامم المتحدة، في حين ان دولا لا تملك شروى نقير من الموارد الطبيعية تتبوأ مكانا متقدما بين اكبر عشر اقتصادات في العالم، سنغافورة نموذجا وهي التي لا تتعدى مساحتها ثلاثمائة وخمسين كيلومترا مربعا، اي ان مساحة السودان توازيها اكثر من سبعة آلاف مرة.
من الواضح ان التشخيص السليم لأزمة الاقتصاد السوداني يشير الى انها في الحقيقة أزمة افتقار الى الخيال والرؤية، والعجز عن اغتنام الفرص السانحة وحسن ادارتها، وتقاصر القيادة القادرة على الالهام لارتياد آفاق بعيدة تتجاوز الاطر التقليدية المكبلة، مأزق الاقتصاد السوداني انه ظل يدار بذهنيات محلية محدودة الأفق وتفتقر الى الكفاءة والفاعلية والديناميكية. لقد ظل الاقتصاد السوداني مأزوما لأنه ظل مرتهناً لادارة الأزمات، وليس لادارة الفرص، ما ان يخرج من أزمة حتى يدخل في اخرى وهكذا سلسلة أزمات متلاحقة.
وما كان لمسألة الانفصال ان تحدث كل هذا التأثير السلبي على صعيد الاداء الاقتصادي للدولة، لو كانت أحسنت استغلال الموارد الكبيرة من العائدات النفطية التي توفرت لها طوال اكثر من عشر سنوات، لقد بددت الحكومة وقتا ثمينا وفرصا ذهبية ابان سنوات رخاء العائدات النفطية على مدار العقد الماضي، وقد اطلت السنوات العجاف بلا تحسب لها، وما كان الامر ليحتاج الى عباقرة في علم الاقتصاد لاكتشاف هذه الحقيقة العلمية البسيطة التي جرت قبل آلاف السنين على لسان وزير مالية العزيز، يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
لقد بح صوت الخبراء والمختصين وهم ينبهون منذ ان اطل فجر عصر النفط على البلاد من مغبة الخضوع لاغرائه، والركون اليه دون اهتمام بقطاعات الانتاج الحقيقية في بلد يذخر بموارد طبيعية هائلة في الزراعة بشقيها، وكان محتماً ان يصاب الاقتصاد السوداني بالمرض الهولندي المعروف لان صناع القرار تجاهلوا تلك النصائح ليس لعدم معرفة بتبعات ذلك، فمن بينهم خبراء اقتصاديون مرموقون، ولكن لأن مشكلة الاقتصاد السوداني في عهد الحكم الحالي هي انه لم يكن يدار بأولويات وحسابات اقتصادية، بل غلبت عليها الاجندة السياسية وحسابات الربح السياسي القصير الأمد على حساب المعالجات الاقتصادية العلمية طويلة الأثر.
ومهما يكن من أمر انتهت. في كل أنحاء العلم، تلك الحقبة التي كانت تمارس فيها السياسة بحسبانها سوقاً لـ«طق الحنك» وإطلاق الشعارات الجوفاء، لقد أعادت التطورات على الساحة العلمية تعريف السياسة ذات القيمة الحقيقية بأنها القدرة على الإدارة الاقتصادية الفعالة والكفاءة للموارد المحدودة بحيث تحقق الرفاهية للمواطنين، لتضع بذلك معايير جديدة لنجاح وفشل الدول، والدور المحوري الذي يلعبه الاقتصاد كرافع أساسي للعمل السياسي لم يعد أمراً محل جدل، وأينما جلت ببصرك رأيت الاقتصاد يستحوذ كل اهتمام وأجندة الحكومات والسياسيين، يستوي في ذلك الدول الديمقراطية العريقة أو تلك الباحثة بجد عن التحول نحو الديمقراطية وحتى تلك النظم الدكتاتورية العتيقة التي تحسب في توفير الرفاهية الاجتماعية شأناً يغني مواطنيها عن الالتفات لتسلطها وسلبها لحرياتهم، ومن يتابع الانتخابات التي تجري في أركان الدنيا الأربعة يجد ان القضايا الاقتصادية هي محور حملات البرامج السياسية كما انها مناط الترجيح بين الأحزاب المتنافسة.
وها هو حزب العدالة والتنمية التركي يقترب من الفوز بدورة برلمانية ثالثة في الانتخابات العامة التي ستجري في الثاني عشر من يونيو الجاري، وما ذلك إلا لأنه نجح منذ فوزه الأول في انتخابات عام 2002م، في النهوض اقتصادياً بتركيا، وهي التي كانت على شفا الإفلاس مع مطلع القرن الجديد، لتلحق في غضون سنوات قليلة بركب مجموعة العشرين التي تضم أكثر الاقتصادات العالمية، وهو أمر بالطبع لم يتحقق صدفة ولا خبط عشواء لكنه نتيجة منطقية لرؤية استراتيجية ثاقبة، وقيادة مثابرة وأداء فعال.
ولئن كانت هناك من فائدة لخروج العائدات النفطية من حسابات دوائر صناعة القرار، فهو الأمل في أن تفيق من سكرة الأموال النفطية السهلة وتثوب إلى رشد تحريك الفرص الحقيقية لإنهاض الاقتصاد السوداني من كبوته المتطاولة، وهو أمر لا يمكن أن يتم بإجراءات جزئية وترقيعية هنا وهناك، المطلوب أكثر من مجرد البحث عن سبل لسد عجز الموازنة الوشيك في موارد النقد الاجنبي، أو في ايراداتها، بل الدخول في حقبة جديدة لاطلاق طاقات الاقتصاد السوداني الضخمة الكامنة، وفي تحريك عجلة الإنتاج، وادارة الاقتصاد بعقلية اقتناص الفرص وتعظيمها، لا الانكفاء على الاستمرار في نهج ادارة الأزمات.فالعائدات النفطية مهما بلغت لن تكون بديلاً للقطاعات الإنتاجية، التي لا ترتبط بها حياة أغلبية السكان فحسب، بل يتوفر السودان على فرص تفضيلية فيها كفيلة بأن تجعله في مقدمة الاقتصادات العالمية، فالدول التي تعوزها موارد السودان الطبيعية، ومع ذلك تبوأت تلك المكانة العالمية لم يكن ذلك أبداً بفضل معجزات سحرية، بل بفضل قادة عظام ذوي بصيرة ورؤية وعزيمة، استثمروا ارادة النهوض بشعوبهم إلى أقصى درجة لم يمنعهم بؤس الامكانات المادية.
والخشية ألا يتجاوز سقف طموحات صناع القرار البحث عن بدائل للموارد النفطية المقطوعة للاستمرار في النهج ذاته الذي حول ادارة الاقتصاد إلى مجرد عملية لتوفير الأموال للصرف السياسي، وليس للصرف الانتاجي، ولا يكفي اطلاق تصريحات عن الحاجة لبرنامج اقتصادي جديد، بل يجب أن تتم أولاً عملية تصحيح حاسمة للتشوهات التي شابت الأداء الاقتصادي للدولة على مدى العقدين الماضيين، ويجب أن يكون هناك اصلاح حقيقي، ولعل الواقع يقول ان الحاجة الماسة هي لتغيير حقيقي في بنية وهيكلية الاقتصاد السوداني الراهنة وليس مجرد عملية اصلاح جزئي.
وأول خطوات التصحيح الحاسمة في هذا الخصوص هي استعادة دور ومرجعية وحيادية مؤسسات الدولة، ولا يمكن لحكومة حريصة على كيان الدولة، ثم تترك عقدها ينفرط على هذا النحو لتدار سداح مداح من خارج مؤسساتها، بلا أولويات ولا رقابة ولا محاسبة، والحديث عن مكافحة الفساد الذي يرفعه قادة الحكم لا يمكن أن يتم بغير إنهاء فعلي للبيئة الصديقة للفساد التي مكنها عجز مؤسسات الحكم الرقابية والعدلية عن القيام بدورها ان لم يكن بعضها مشارك في لعبة تغييب دورها عن عمد خدمة لمصالح ضيقة، وما من فساد أكبر من إفساد نظام ادارة الدولة، وهي نظم معروفة لم يكن السودان يفتقر إليها بل كان يمتلك تقاليد راسخة في الخدمة المدنية وكل لها شأن في النزاهة والمسؤولية في ادارة الشأن العام، لم يبق منها شئ للأسف تحت زحف وسيادة مفاهيم دولة الحزب على حساب دولة الوطن، ولذلك تحول المشروع الوطني الكبير إلى مجرد مشاريع شخصية لذوي النفوس الصغيرة.
ولا يمكن الحديث عن برنامج جديد للاصلاح الاقتصادي الحقيقي بدون معالجة جذرية لمسألة ادارة الاقتصاد الفعلي للبلاد من خارج المؤسسات الرسمية المعنية بذلك. فوزارة المالية والاقتصاد الوطني المنوط بها الولاية على المال العام، والولاية على ادارة الاقتصاد الوطني تجد نفسها في اغلب الاحيان في ظل نفوذ مراكز القوى «الادارة الباطنية» للاقتصاد الوطني قد تحولت الى متفرج. ومجرد ادارة خزانة لما ينفذ اليها من مال عام، لقد تميزت السنوات الماضية بانتشار ظاهرة كانتونات المؤسسات الحكومية المستقلة في تصرفها في الاموال العامة وفي تحديد اولويات الصرف البذخي بلا حسيب ولا رقيب على نحو لا نجد له نظيرا حتى في عصر جمهوريات الموز.
وما لم يتم انهاء هذه الظاهرة واسترداد ولاية وزارة المالية والاقتصاد الوطني الكاملة وعلى نحو حاسم لولايتها على المال العام، وعلى ادارة الاقتصاد الوطني وتحديد الاولويات وفق استراتيجية تراعي مصالح الدولة. وليست مصالح الجماعات المتنفذة، فسيطول ليل الأزمة الاقتصادية وستؤدي بأسرع مما يتصوره الكثيرون الى ما لا تحمد عقباه.
ومن أهم التشوهات التي تحتاج الى حلول عاجلة وناجزة هي اولويات الصرف الحكومي. فمن أكبر الدلائل على افتقار الحس السياسي والاقتصادي السليم هذا الترهل الذي لا يوجد له مثيل في طول العالم وعرضه في حجم الحكومة الاتحادية والحكومات الولائية وتلك الصفوف الطويلة من الألقاب السياسية. ألقاب مملكة في غير موضعها، وهو أمر انتجته بالطبع عقلية توظيف العطالة السياسية على حساب توظيف الأجيال المنتجة، لقد آن الاوان ليس فقط لإجراء جراحة كبرى على حجم أجهزة الحكم المرهلة، بل كذلك في تغيير نهج تولي الوظيفة العامة، فما من فساد أكبر من تولية الامور لغير أهلها من ذوي الدربة والدراية والنفوس الكبيرة، وما من شئ يضعف الدول ويقعد بها من تدني الكفاءة وتواضع قدرات من تعج بهم دوائر الحكم. فالسودان بلد غني بالكفاءات من كل لون فلماذا يرتهن لعاطلين من المواهب لا يقدمهم إلا الولاء الحزبي او الولاء الشخصي..؟!!
علي ان ثالثة الأثافي هي ذلك الاختلال الكبير في اولويات الصرف الحكومي، فموارد الحكومة بكل المقاييس ليست شحيحة ولا قليلة، ولكنها تفتقر الى التوظيف السليم، فليس معقولا ان تستمر الاجهزة النظامية في الاستحواذ علي اغلب ايرادات الدولة في حين تشتكي مؤسساتها الصحية والتعليمية والبحثية والانتاجية فقرها لطوب الارض، لقد اثبت ربيع الثورات العربية سقوط نظرية ان قوة الانظمة رهين بقوة اجهزتها النظامية، لقد تآكلت تلك الاجهزة الواحدة تلو الاخرى تحت غضب الشارع، ولم تنجد حاكما، ولم تحفظ نظاما، لقد تبخرت ببساطة وتبخرت معها كل تلك الاموال الضخمة التي صرفت عليها ليوم كريهة وسداد ثغر، فلا هي ثبتت ليوم كريهة ولا سدت ثغرا.. يثبت التاريخ ألا دوام إلا لشرعية مستمدة من الشعب. ولذلك فالمنطق والمصلحة السياسية تقتضي ان تنفق اموال الدولة لصالح الشعب، تنهض بتعليم ابنائه، وبصحتهم، أس نهوض الدول وبقائها.
ما اكثر ما يمكن ان يقال في شأن الاوضاع الاقتصادية المنذرة بخطر وخيم، وحالة الهرج والمرج السياسي التي تسود البلاد لم تترك فرصة لمعتبر في تدبُر المآلات الخطيرة للتدهور الاقتصادي، ولئن كان من الممكن ان تفلح الفهلوة وبعض الشطارة في ادارة الصراعات السياسية، فمن المؤكد ان ادارة الاقتصاد امر مختلف تماما لا تفلح معه حالة الإنكار ولا التصريحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا انصاف المواقف، ولا التمنيات، فالاقتصاد علم بدائل يقوم على معطيات موضوعية وحسابات دقيقة، وما يحتاجه السودان اكبر من انتظار تجريب المجرب، المطلوب بصراحة لمواجهة الخطر الآتي.. مراجعة شاملة، وتحول جذري في نهج وسياسات وادارة الاقتصاد الوطني.
وهذا يعني ان قد آن الاوان لأن تلتفت قيادة الدولة بجدية اكثر للشأن الاقتصادي وتوليه الاهتمام والعناية القصوى التي يستحقها لأن ذلك لم يعد ترفا ، بل أمراً بالغ الجدية والمطلوب تغيير حقيقي في نهج، وسياسات، وادارة الاقتصاد الوطني بكفاءة ونزاهة وشفافية وعدالة وفق رؤية ثاقبة خلاقة وجريئة تتجاوز ادارة الأزمة الى تحريك وتفجير طاقات الاقتصاد السوداني الضخمة الكامنة.

سيدي الرئيس .. قبل البحث عن خليفة هذا نصيبي من النصيحة ..

كنت قد عزمت كتابة هذا المقال غداة إعلان الرئيس عمر البشير في حواره مع «الشرق القطرية» الأسبوع قبل الماضي، حين أعاد تأكيد عدم رغبته في الترشح لولاية جديدة، وكشف عن موقف من العيار الثقيل معلناً دعمه لمرشح شاب لخلافته. بيد أنني آثرت إرجاء كتابة المقال لما بعد انعقاد مجلس شورى المؤتمر الوطني، وعلى الرغم من قناعتي عن تجربة بسطحية وشكلية الممارسة الديمقراطية في الأحزاب السودانية بداية من الإخوان المسلمين وانتهاءً برفاق لينين وما بينهما، إلا أنني ظننت «وبعض الظن إثم» أن اللحظة التاريخية الحاسمة التي تمر بها البلاد والمخاطر الكبيرة والتحديات الجمة التي سيخلفها تقسيم البلاد خلال أسابيع قليلة، ستجعل من اجتماع مجلس شورى المؤتمر الوطني الأخطر من نوعه، وأن مداولاته ومخرجاته ستكون على قدر خطورة الوضع الراهن، وستخرج بخطاب ملهم للسودانيين بما يطمئنهم إلى مستقبلهم.
ولكن جاءت نتائج شورى «الحزب الرائد» عند سوء ظني القديم ببؤس الأداء الحزبي وتقاصره عن قامة الهموم الوطنية الكبيرة، وغياب الممارسة الديمقراطية التي تتشدق بها أحزابنا جميعها، ثم لا تجد سوى صدى صوت الزعيم. وحتى لا يزعم أحد أننا نفتري على حزبنا العتيد بغير حق، أنظر- يا هداك الله- إلى البيان الختامي الذي صدر في خواتيم أعمال المجلس، لتفاجأ بأن أغلب فقراته تكتفي بإعادة التذكير بما أدلى به الرئيس البشير في الجلسة الافتتاحية، ثم نقاط عجلى لا تفصح عن شيء جديد، ولا مواقف كبيرة تتوقعها في هذه اللحظة الحاسمة من مؤسسة تعتبر الأهم بعد المؤتمر العام للحزب، إذن هذا خطاب الرئيس فأين الشورى؟ ألا يذكرك هذا بالتقليد المتداول في الأحزاب الشمولية العريقة التي تختتم أعمالها بالعبارة الشهيرة باعتبار خطاب القائد وثيقة تاريخية، ثم لا نسمع للأغلبية الصماء صرفاً ولا عدلاً.
ما كان الأمر ليحتاج عناء الكتابة، لولا أن أقدار السودان والسودانيين جعلت مصائرهم على مدى أكثر من عشرين عاماً بين يدي «المؤتمر الوطني»، ثم يجدون أنفسهم اليوم ليس فقط أمام تقسيم وطنهم بلا أسباب وجيهة إلا فقر الخيال السياسي وشح النفس، بل أن السلام المستدام، الذي اعتبر تقسيم البلاد مهراً له وثمناً مقبولاً من أجله، لا يزال أمراً بعيد المنال، وكفة السيناريو الأسوأ الذي حذَّر منه الرئيس البشير نفسه ذات يوم تزداد ترجيحاً يوماً بعد يوم، أن تقسم البلاد وتعود الحرب، وهو ما تنذر به عودة الأجندة العسكرية إلى الواجهة بأشد مما كان، في وقت كان الظن أنه وقت السلام، فضلاً عن عواقب التقسيم الآخرى وليس أقلها الأوضاع الاقتصادية المنذرة بسنوات عجاف. كل تلك المخاطر والتحديات كانت تزيد من حجم التطلعات إلى مواقف كبيرة وخطاب سياسي ملهم وقدرة قيادية فذة للحزب الذي انتدب نفسه لـ «إنقاذ السودان» طوال هذا السنوات الأطول في عمر كل الانظمة التي حكمت السودان، ولكن ها هو الرأي العام يفاجأ بمواقف باهتة لا تمت للواقع المنذر بصلة، ومن عجب أن توصيات مجلس الشورى الست في بيانه الختامي خصصت اثنتان منها للشأن الفلسطيني، ولم تفصح في الشأن الذي يليها إلا بفقرات فاقدة للمعنى السياسي من قبيل "يشيد، ويهنئ ويؤكد".
ونعود إلى بيت القصيد من هذا المقال، سيدي الرئيس، ما حاجتك لمثل هذا الحزب الذي يخلع على نفسه ألقاباً في غير موضعها، ولا يريد أن يفهم معنى أن يكون قدر المهمة التي ينتدب نفسها لها، وما الذي يضيفه إليك إن لم يكن خصماً عليك، ولا أريد هنا ترديد ما فصلته في مقال سابق لي بعنوان «المؤتمر الوطني .. حزب من»؟! الذي وصفته فيه بأنه حزب فاقد للأهلية السياسية ولا يعدو أن يكون مجرد مصلحة حكومية لا يستطيع الحياة خارج ظل الرئيس ويستمد وجوده من قدرات الدولة وإمكاناتها التي تمده بأسباب الحياة. ومن عجب ألا أحد من كتبة أو أفندية الحزب رد على ذلك المقال مدافعاً عن الحزب الذي انتقدته في صميم وجوده، والسكوت علامة الرضاء، إذ لعلهم يوافقونني الرأي في ما ذهبت إليه، أو أن الأمر سيان عندهم لأنه حزب لا بواكي له، أو لأنه لا تتوفر لهم قناعة حقيقية به.
كلمة صدق واحدة قالها أحد قادة المؤتمر الوطني في تصريح صحفي في اعتراف نادر، ذكر فيها أن جماهيرية الرئيس البشير أكبر من شعبية حزبه، وهو عين ما ذهبت إليه، فالحزب حقيقةً يستمد وجوده ودوره من رئيسه، وليس العكس، ولذلك أصبح يدور حيث دار متطفلاً على كسب الرئيس، وما من شأن له إلا أن يتفاخر بما يطلق عليه تدليلاً بأنه الحزب الحاكم من باب الزينة.
وفي ظني أن الرئيس البشير مدرك لضعف بنية المؤتمر الوطني السياسية، وطبيعة وجوده المعتمدة على نفوذ السلطة، فضلاً عن تكلس قياداته وطول بقائها في مواقعها، وهو أمر يؤكده ما ظل البشير يردده في أكثر من مناسبة عن ضرورة إجراء تغيير قيادي في الحزب وهياكله يطاله من أدناه إلى أعلاه، وظهر ذلك بادئ الأمر قبل بضعة أشهر في أعقاب صعود ربيع الثورات العربية، حين أكد في حواراته مع بعض القطاعات الشبابية في الحزب انحيازه لدفع الشباب إلى الواجهة القيادية، وضرورة ترجل من تعدوا الستين من العمر، وتغيير من قبعوا في مواقعهم الحزبية والرسمية لعشر سنوات وأكثر، ويبدو أن البعض ظنها مجرد كلام ألقي على عواهنه، أو تصريحات عارضة فرضها علو كعب الانتفاضات الشعبية التي ألقت بظلالها وتأثيرها على منسوبي الحزب من الشباب، فحركت فيهم شيئاً من شعاراتها الثورية.
غير أن حديث الرئيس البشير لـ«الشرق» القطرية أرسل رسالة أكثر من مباشرة وذات مغزى واضح، إذ لم يؤكد فيها تمسكه بمسألة ضرورة تغيير كرادلة الحزب وكهنة المعبد لصالح عناصر أكثر شبابية فحسب، بل مضى أكثر حينما كشف عن نيته تقديم مرشح شاب لخلافته، وهو ما يعني أن مسألة الخلافة المنتظرة كانت شبه محسومة قبل أن يدخل في السباق عليها عدد من كبار قادة الحزب بعد إعلان الرئيس نيته التنحي في نهاية ولايته الحالية قبل إعلانه عن مواصفات خليفته المنتظر وفئته العمرية، وهذا الموقف المعلن للرئيس البشير يعني عملياً أنه قرر تجاوز رجال الصف الأول وربما الثاني في قيادة الحزب الحالية، أو لعله زاهد في رؤية أحدهم خليفة له. والملاحظ أن تعليقات قادة الحزب بدت متحفظة أو متحرجة من الخوض صراحة في المسألة. والسؤال هل يعني إعلان البشير هذا الموقف أنه حسم السباق نهائياً على خلافته، أم أن الأمر مؤجل في أجندة بعض الطامحين رجاء أن تمر العاصفة الهوجاء في الوقت الراهن، عسى أن تعيد تطورات غير منظورة خلط أوراق اللعبة مجدداً قد تفضي إلى تتغير قواعد اللعبة وربما اللاعبين كذلك.
ومهما يكن من أمر فإن الجدير بالاهتمام أن الرئيس البشير يبدو الإصلاحي الوحيد في المؤتمر الوطني، فكل المواقف الداعية للإصلاح والتغيير في الدولة أو في الحزب جاءت المبادرة فيها من البشير من دعوته الشهيرة لمكافحة الفساد، وتجديد دماء الحزب، واتخاذ إجراءات صارمة لتعزيز الشفافية والرقابة والنزاهة، ومنع التدخل السياسي في الخدمة المدنية، وتقليص هياكل الدولة، وإجراء استفتاء على الدستور الجديد. وعلى عكس محاولة بعض قادة الحزب إضفاء قدسية على ممارسات السلطة وتجميل أخطائها وتصوير الأمور على أن كل شيء يسير على ما يرام، فإن البشير دائماً ما يتسم بالجراءة في توجيه انتقادات صريحة ولاذعة لإداء الحكومة وتجاوزاتها.
ولكن مع ذلك هناك تساؤلات بالطبع مثارة في الأذهان لماذا مع ذلك تبدو مبادرات الرئيس البشير الإصلاحية بطيئة في إنتاج الثمار المطلوبة، وتكاد تقف على حافة التصريحات الصحافية لا تغادرها!! فتش عن المؤتمر الوطني، فهناك تكمن العلة. فسنوات فاقت العشرين ظل الحزب فيها الوحيد المسيطر على مقدرات الدولة وإمكاناتها، وتشكلت على مدار السنوات طبقة من السياسيين المحترفين تمسك بمقاليده، وتشكل نادياً سلطوياً مغلق العضوية، يتقلب أعضاؤه بين مناصب الحكم ومواقعه المختلفة مستأثرين بامتيازات السلطة ومكاسبها، ليس مهماً أن تنجح أو أن تفشل في ما يوكل إلى أي من أعضائه، فهناك دائماً مكان لذوي الحظوة مهما أثبتوا فشلاً لا يختلف عليه اثنان، وهنا يكمن سر مقاومة أية مبادرة إصلاحية، جاءت من الرئيس أو من غيره، لأن أي تجاوب مع مطالب الإصلاح بأية خطوات مهما صغرت ستفضي حتماً إلى تغيير قواعد اللعب وتهديد مصالح الأعضاء المحظوظين، لذلك لن يكتفوا بعدم الدعوة للإصلاح ابتداءً، بل سيقاومون أي إصلاح ولو كان الداعي إليه الرئيس شخصياً، ليس عن طريق المواجهة المباشرة أو الرفض للإصلاح، بل بإعاقة أو عرقلة تنفيذ أية خطوات حقيقية في طريق الإصلاح، أو إفراغها من مضمونها. والعجز عن الإصلاح في المؤتمر الوطني وعدم بروز تيارات إصلاحية قوية سواء لغياب الإرادة، أو تدني الهمة، وانخفاض سقف أجندة من يجلسون على قيادته تكاد تصدق معها مقولة الزعيم الراجل جون قرن الذي وصف المؤتمر الوطني بأنه "معطوب لدرجة لا يمكن إصلاحها".
إذن ما السبيل إلى الخروج من هذا الوضع المأزقي، فالبلاد لا تملك ترف الوقت ولا تملك مقومات تحمل تبعات تغيير جذري غير محسوب العواقب في بلد أوهنته الحروب الأهلية وشتته الصراعات التي ارتدت إلى الجهوية والقبلية، وما من شك أن هناك حاجة ملحة للتغيير والإصلاح المنهجي المدروس والمتدرج الذي يحمي البلاد من الوقوع في براثن الفوضى والانحلال. فالصبر على قصر النظر والبطء السلحفائي في تعاطي المؤتمر الوطني الراهن مع التطورات المتلاحقة، سيفضي في نهاية الأمر للنتيجة ذاتها التي تحدثها ثورة غضب منفلتة من عيار الحساب السياسي الراشد.
والمطلوب بوضوح أن يخرج الرئيس البشير المؤتمر الوطني من تحت عباءته، وأن ينهض لمهمة تعبيد الطريق لمستقبل آمن ومستقر للبلاد من موقع قومي، وليس حزبيا، أن يكون رئيساً لكل السودانيين مهمته أن يعمل على تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي يضمن ويؤمن للسودانيين نظاماً سياسياً صالحاً، لا أن يكتفي بدور رئيس المؤتمر الوطني الذي يعمل فقط على ضمان استمرار السلطة لحزبه.
ولا شيء يجعلنا لا نصدق أو لا نحمل على محمل الجد تأكيدات الرئيس البشير مراراً أنه لن يترشح لولاية رئاسية جديدة، وأنه سيكتفي بإكمال عهدته الدستورية الحالية، وهذا موقف يشكل أساساً جيداً ومثالياً لرسم خريطة طريق لعبور آمن للسودان إلى مستقبل ديمقراطي ومستقر، ولكن ذلك مشروط بأن ينزع الرئيس البشير عن نفسه صفته الحزبية الراهنة، وسيزعم البعض أن دعوة البشير للتخلي عن رئاسة المؤتمر الوطني تهدف إلى عزله عن محيطه السياسي الداعم له ويفضي إلى الاستفراد به، وهو محاولة تخويف لا معنى لها متى صح عزم الرئيس على الاكتفاء بإكمال ولايته الرئاسية الحالية، فضلاً عن أن حقائق الواقع تشير إلى أن المؤتمر الوطني هو الذي يستمد قوته من الرئيس البشير وليس العكس، وإن كان هناك من سيعاني من حدوث مثل هذا التطور، فهو المؤتمر الوطني بلا شك المكتفي بالاختباء تحت عباء البشير.
ثم أن الرئيس البشير الذي حكم البلاد لربع قرن من الزمان أكثر من أية شخصية أخرى في ما نعلمه من تاريخ السودان، لا يحتاج إلى إضافة المزيد من السنوات إلى حكمه، بل يحتاج إلى دخول التاريخ من أوسع أبوابه، فالمزيد من السنوات في الحكم لا تحمل معنى إن لم تجلب إعادة سيناريوهات الحكام الذين يتشبثون بالسلطة بأي ثمن مثلما فعل عقيدا اليمن وليبيا، وسيذكر التاريخ الرئيس البشير إن كرس سنوات ولايته المتبقية لا لتعبيد الطريق لخليفة من المؤتمر الوطني يعيد إنتاج أزماتنا، بل لإعادة الأمل إلى نفوس السودانيين بغد أفضل بتعبيد الطريق أمام تحول ديمقراطي حقيقي وإرساء دعائم مؤسسات دولة الوطن لا الحزب، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق والبشير مستمر على رأس حزب لا يرى سوى تحقيق مصلحته وضمان استمرار قبضته في السلطة بغض النظر عن تبعات وعواقب ذلك على الوطن.
ويظن المؤتمر الوطني أنه الحزب الغالب، وأنه يملك شرعية شعبية، حسن إذن فما الذي يضيره إن خرج البشير منه، ستكون تلك مناسبة لإظهار شعبيته إن كانت حقيقية، فهل كل حزب يملك حق أن يكون رئيسه مشيراً وقائداً للجيش، فجوهر التنافس الديمقراطي يقوم على تكافؤ الفرص، ولكن لا أحد يصدق إدعاء حزب امتلاك شعبية جارفة في سباق منافسوه مكتوفو الأيدي، والمؤتمر الوطني صادق في قوله إن لم يحدث تزوير في صناديق الاقتراع في الانتخابات الاخيرة، ولكن كيف تكون الانتخابات نزيهة والحزب يسيطر على كل مفاصل الدولة وأجهزتها النظامية والإدارية والمالية، بالطبع سيكون الاقتراع في هذه الحالة تحصيل حاصل.
ليدع الرئيس البشير المؤتمر الوطني يكافح مصيره متساوياً مع غيره من القوى السياسية، فهو لم يكتسب قوته بغير سلطان الدولة، كما أنه ليس من الإنصاف القول بضعف الأحزاب وهي في معركة غير متكافئة ومغلولة الأيدي، وليدع السودانيين يختارون من يحكمهم في ظل ممارسة ديمقراطية حقيقية توفر فرص عادلة ونزيهة بين الجميع.
المطلوب من الرئيس البشير ألا يختار للسودانيين من يرثهم من بعده من بين صفوف حزبه، بل أن يعمل ليذكره التاريخ بإجلال بأنه مكنهم من اختيار من يحكمهم بحرية، وهو أمر لا يمكن تحقيقه بغير أن يخلع جلباباً حزبياً لا يحتاجه، وينبغي الاعتراف بأن صيغة وجود المؤتمر الوطني الحالي التي لا تعرف فيها الحدود بينه وبين الدولة تشكل تشويهاً بالغاً في الحياة السياسية، ولذلك فأكبر مهمة تواجه أجندة الرئيس البشير الإصلاحية فك هذا الارتباط بين الحزب والدولة، وهو أمر يصعب تصوره إن ظل البشير متمسكاً بحزبه، خاصة في ظل مشروعية المؤسسة العسكرية التي لا يزال يتمتع بها وإن تخلى عن موقعه بصفته قائدا عاما قبل عام فقط.
يحتاج الرئيس البشير لأن يسهم في تأسيس حياة سياسية مدنية تتساوى فيها الحقوق والواجبات والفرص والممارسة الديمقراطية السليمة، وليكن الشعب هو صاحب الكلمة في اختيار ومحاسبة من يقدمه للحكم، ولكن ذلك غير ممكن بغير تغيير قواعد اللعبة السياسية الحالية التي تجعل حزباً مسيطراً على مفاصل الدولة ثم يزعم لسيطرته مشروعية شعبية.
وما من شك أن الرئيس البشير يواجه لحظة تاريخية مفصلية للاختيار عند مفترق الطرق، ولا يزال الكثيرون، بما في ذلك قوى سياسية معارضة، فضلاً عن قاعدة شعبية كبيرة، يراهنون على أن البشير يستطيع إن إراد أن يتجاوز ضيق الحزبية إلى رحاب القومية، وبوسعه أن يعيد الأمل إلى نفوس السودانيين في وقت أخذ الأمل فيه يتضاءل ويخشون من أسوأ السيناريوهات، والتاريخ يحدثنا أن القادة العظماء وحدهم من يكتبون المجد لشعوبهم ولأنفسهم.
عن صحيفة (إيلاف) السودانية
8 يونيو 2011

أردوغان : لقد فهمتكم لا دستور بلا إجماع وطني

"لقد وصلتنا رسالة الشعب, أن الدستور الجديد ينبغي أن يتم التوصل إليه عبر التسوية والتشاور والتفاوض, لن نغلق أبوابنا بل سنتوجه للمعارضة" تلك كانت هي أبلغ كلمات رجب طيب اردوغان وهو يوجه خطاب النصر بعد إعلان فوز حزبه "العدالة والتنمية" في الانتخابات التي أجريت الأحد الماضي, ليسجل سابقة في تاريخ الديمقراطية التركية بحصول حزب على تفويض شعبي حاسم لثلاث دورات برلمانية متتالية يمكنه من الحكم منفرداً.
أردوغان "الأسطى, المعلم, المحترف" وهي بعض ألقاب خلعتها الصحافة التركية, بما فيها بعض تلك المعارضة لتوجهاته,على الزعيم المنتصر, لخص بكلماته البليغة في خطاب نصره أعظم دروس تقدمها التجربة السياسية التركية, أن الديمقراطية الحقة والممارسة الفعلية والنزيهة لمقتضياتها هي سبيل الوحيد للاستقرار والسلام والتنمية والتقدم ولا سبيل لنهوض الأمم بغيرها.
لم يأت اعتباطاً إعلان أردوغان فهمه لرسالة الشعب الذي عبر عنها من خلال صناديق الإقتراع والنتائج التي أسفرت عنها, لقد كان زعيم حزب العدالة والتنمية يريد الحصول على أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان ليتمكن من تحقيق مطلبه الاساسي وهو إصدار دستور جديد لتركيا يتجاوز به الدستور المعمول به حالياً الذي صنعه آخر انقلابات المؤسسة العسكرية في عهد الجنرال كنعان إفرين العام 1982, ولكن رسالة الشعب التركي التي أدركها أردوغان كانت واضحة, منحته شرعية قياسية وحققت له التفويض الشعبي الحاسم ليواصل حزبه الحكم منفرداً, ولكنها في الوقت نفسه لم تمنحه التفويض الكامل ليمضي قدماً في إصدار الدستور الجديد منفرداً وألزمته بالحاجة للتشاور والتفاوض مع القوى السياسية الآخرى, لأن الدستور ليس شاناً حزبياً مهما بلغت شعبية الحزب الحاكم, بل هو قضية قومية تحتاج لتوافق قوى المجتمع بتكويناته المختلفة مهما صغر شأنها.
لقد جاءت نتائج الانتخابات التركية بخريطة سياسية بالغة الدلالات, فقضية إصدار دستور جديد كانت في صلب البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية, لقد أبلغ الأتراك أردوغان أنهم يحبونه ولكن ليس إلى درجة أن يمنحوه تفويضاً بلا سقف أو أن يصنعوا منه ديكتاتوراً جديداً تحت ظلال الديمقراطية ليقرر مصيرهم ومستقبلهم وحدها, بل ألزموه بالتشاور مع معارضيه والتوافق معهم ليعبر الدستور الجديد عن الأمة لا عن شريحة واحدة منها.
فحسب الدستور المعمول به حالياً فإن إصدار دستور جديد من البرلمان مباشرة دون الحاجة إلى استفتاء شعبي يحتاج إلى ثلاثمائة سبعة وستين  صوتاً من مقاعد البرلمان البالغة خمسمائة وخمسين مقعداً, أي الثلثين, أو بضرورة إجراء استفتاء شعبي في حالة الحصول على ثلاثمائة وثلاثين صوتاً, ولكن حزب العدالة والتنمية على الرغم من أن الأصوات الشعبية التي حصل عليها أزدادت إلى نسبة خمسين بالمائة, كانت نسبته خمسة وأربعين بالمائة في الانتخابات السابقة, من جملة المقترعين الذين سجلوا نسبة تصويت قياسية بلغت سبعة وثمانية بالمائة, أي أن واحداً من كل اثنين من الأتراك صوتوا لصالح حزب العدالة, إلا أن عدد المقاعد التي حصل عليها هذه المرة انخفضت من ثلاثمائة واحد وأربعين  مقعداً في البرلمان السابق إلى ثلاثمائة ستة وعشرين مقعداً في البرلمان الجديد, والمفارقة هنا أنه على الرغم من الانتصار الانتخابي الثلاثي, والفوز بتأييد شعبي قياسي لأردوغان إلا أنه لم يحقق حلمه بالحصول على ثلثي مقاعد البرلمان فحسب, بل تراجع عدد نوابه لما دون الثلاثمائة والثلاثين مقعداً التي كان يتمتع بأكثر منها في البرلمان السابق ومكنته من إجراء تعديلات دستورية بعد حصولها على التأييد في استفتاء شعبي.
ولذلك على الرغم من ارتفاع شعبية أردوغان في هذه الانتخابات إلا أن الخريطة السياسية والتركيبة البرلمانية الجديدة التي جعلته على بعد أربعة مقاعد فقط من خوض مغامرة تمرير الدستور الجديد من داخل البرلمان وفق الخيار الثاني الذي يستلزم أيضاً الحصول على تأييد استفتاء شعبي, ستفرض عليه التشاور مع المعارضة الشرسة الممثلة في البرلمان لتجاوز هذا الحاجز, فحزب الشعب الجمهوري معقل العلمانية التركية الذي أسسه مصطفى كمال مؤسس الجمهورية التركية حصل على نسبة خمسة وعشرين بالمائة من اصوات الناخبين, أي نصف ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية, وفاز بمائة خمسة وثلاثين مقعداً, بينما حصلت الحركة القومية التي تشكل حصن العرقية التركية على نسبة ثلاثة عشر بالمائة من اصوات الناخبين وحصدت ثلاثة وخمسين مقعداً, مسجلاً مفاجاة حيث كانت فضائح جنسية عصفت ببعض قادة الحزب وأجبرتهم على الاستقالة قبل أسابيع قليلة تثير تكهنات بأن الحزب لن يتجاوز حاجز الحصول على نسبة العشرة بالمائة من أصوات الناخبين اللازمة لتأمين الدخول للبرلمان, وكان مراقبون يعتقدون أن فشل الحركة القومية في دخول البرلمان كان سيصب لصالح العدالة والتنمية ويبدو أن صمود الحركة أدى لحرمان أردوغان من الحصول على عدد المقاعد الي كان يتطلع إليها, أما حزب السلام والديمقراطية الذي يعد الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني فقد حصل على نحو سبعة بالمائة من اصوات الناخبين وعلى ست وثلاثين مقعداً, ولتفادي حاجز العشرة بالمائة فقد ترشح منسوبوه كمرشحين مستقلين, حيث يجيز الدستور لأي عشرين عضوا من تشكيل كتلة برلمانية.
وتشير قراءة الصورة العامة للانتخابات التركية إلى المشهد التالي تزايدت شعبية حزب العدالة والتنمية إلا أن عدد مقاعده البرلمانية تقلصت, في حين زادت عدد مقاعد حزب الشعب الجمهوري المعارض إلا أن شعبيته تقلصت خاصة فقدانه لبعض مناطق نفوذه التقليدية على ساحل البحر الأبيض المتوسط لصالح غريمه الأيديولوجي حزب العدالة والتنمية, وصمدت الحركة القومية في وجه الفضائح الجنسية لقادتها وتحاوزت تكهنات خروجها من البرلمان, فيما نجح حزب السلام والديمقراطية الكردي من مضاعفة تمثيله من تسعة عشر عضواً في البرلمان السابق إلى ستة وثلاثين عضواً في البرلمان الجديد.
وما من شك القول في هذا المقام من أن تركيا, الدولة ذات التاريخ العريق, هي الرابح الاكبر من هذه الممارسة الديمقراطية التي تزداد رسوخاً, صحيح أن حزب العدالة والتنمية هو الذي حقق فوزاً تاريخياً للمرة الثالثة على التوالي, ولكنه ما كان ليحقق هذا النجاح لو لم تكن هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية في تركيا, والديمقراطية لا تصفق بيد واحدة ولا يصنعها حزب واحد بل تحققها مجموع الإرادة السياسية المؤمنة بها والتي تمارسها حقاً في المجتمع وفي النظام السياسي, ولولا القناعة المتزايدة بالنظام الديمقراطي في تركيا من قبل شرائح وفعاليات المجتمع والدولة والتي تزداد ترسخاً لما تمكنت التجربة الديمقراطية من الصمود.
والواقع أن الديمقراطية على إطلاقها ليست جديدة على تركيا ولكنها ظلت تمارس منذ ميلاد الجمهورية في العام 1923 بزعامة أتاتورك وفق قواعد لعبة معينة جعلت المؤسسة العسكرية, التي صنعت الجمهورية هي أيضاً حارسة النظام السياسي, وثمة جدل كبير حول دورها طوال العقود الثمانية الماضية, فخصوم الكمالية يظلوا يصفونها بأنها حارسة النظام العلماني التركي الذي أرساه أتاتورك, ويجدر القول هنا أن ذلك الوصف ينطوي على قدر من الإجحاف والتطفيف في حق المؤسسة العسكرية التركية, ولعل الإنصاف يقتضي وصفاً أكثر دقة وأقرب للممارسة الواقعية وهي أن المؤسسة العسكرية التركية هي فعلاً حارسة للمصالح القومية التركية, وليست حارسة للعلمانية المصطلح الذي يطلق عادة على الكمالية ووريثها حزب الشعب الجمهوري, بمعنى أن الجيش التركي معني بالحفاظ على المصالح القومية التركية بأكثر مما هو معني بفرض النظام العلماني, ولا نعني هنا بالطبع هنا أنه لا يوجد عسكريون مقتنعون بالعلمانية وعملوا على ترسيخها, ولكن جوهر دور المؤسسة العسكرية التركية كما يثبت تاريخها في العقود الماضية يؤكد دورها القومي أكثر من بعدها الأيدلوجي.
والدليل الأبرز على ذلك أن المؤسسة العسكرية لم تتدخل بانقلابات عسكرية  مباشرة على مسار العملية السياسية المدنية في تركيا إلا ثلاث مرات طوال تسعين عاماً من عمر الجمهورية, وكانت كلها تدخلات قصيرة العمر إذ لم يبق العسكريون في الحكم إلا سنوات قليلة, وحتى الجنرال كنعان إفرين الذي حكم خلال الثمانينات قدم نفسه كمدني وليس عسكري في انتخابات عقب إصدار دستور 1982, صحيح أن المؤسسة العسكرية مارست ضغوطاً على نجم الدين أربكان أجبرته على تقديم استقالته من رئاسة الوزراء عام 1997 بعد عام واحد من تولي منصبه, وتجري الآن محاكمة لعسكريين بمحاولة انقلاب على أردوغان, إلا أن ذلك ليس كافياً لدمغ المؤسسة العسكرية التركية بأنها حامية العلمانية, فأربكان نفسه كان نائباً لرئيس الوزراء عام 1974, وشارك في اتئلافات حكومية متعددة على مدى عقود, ويحكم حزب العدالة والتنمية تركيا على مدى عقد دوت تدخل من المؤسسة العسكرية على الرغم من حالة المد والجزر بين الطرفين, لكن في كل الأحوال يجب الاعتراف بأن دور المؤسسة العسكرية التركية كان حاسماً في الحفاظ على النظام الديمقراطي, وأن تدخلاتها المحدودة في مسار النظام السياسي الذي يسيطر عليه المدنيون كان محدوداً للغاية وأقرب لتعديل المسار السياسي للحفاظ على المصالح القومية للبلاد بأكثر مما هو رغبة في الحفاظ على الأيدولوجية العلمانية أو فرضها, كما أن وعيها العميق بالمصالح القومية لتركيا وإدراكها لدورها في الحفاظ عليه هو الذي جعلها تكتسب مرونة كبيرة في التعاطي مع اللعبة السياسية والقبول بقواعد النظام الديمقراطي واحترام إرادة الشعب التركي ولم تعط نفسها حق التحايل عليه وسلبه حقه في اختيار من يحكمه.
ويحسب للقوى السياسية المعارضة لحزب العدالة والتنمية أنه لولا صبرها على الديمقراطية واستعدادها للقبول بمقتضياتها, وتحملها تجرع طعم الهزائم المريرة على يد هذا الحزب في ثلاثة انتخابات متوالية, دون أن تنقلب على اللعبة بكاملها, ووعلى الرغم من حدة الخطاب السياسي وشراسته إبان الحملة الانتخابية إلا أن أحداً منها لم يخرج ليزعم بتزوير الانتخابات أو التلاعب بها, لولا مثابرة هذه القوى وإيمانها القوي بالنظام الديمقراطي لما أمكن لحزب العدالة أن يهنأ بحكم مستقر منفرداً بالسلطة لأكثر من عقد.
وبالطبع ما كان ممكناً للتجربة الديمقراطية في تركيا أن تحقق كل هذا النجاح السياسي والاقتصادي وتصبح مثار إعجاب لشعوب المنطقة العربية  الساعية للتحرير من أنظمة قابضة متكلسة, ومحط اهتمام دولي لولا هذه القدرات السياسية الفذة التي اظهرها حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان, الذي قدم نموذجاً شديد الإبهار في القيادة والقدرة على النظر الاستراتيجي والبصيرة النافذة والإنجاز التاريخي, ولعل أهم دروس حزب العدالة والتنمية أنه لم يهبط على قومه الأتراك من السماء بشعارات
وردية لا تجد طريقها إلى أرض الواقع, فهو حزب نشأ من رحم التجربة السياسية التركية ومن واقع المجتمع التركي, واستطاع ان يفكك شفرة مطالب الشعب في التقدم, وليس في بيع الشعارات المتوهمة, لم يات الحزب قفزاً على النظام الدستوري القائم, ولا بهجمة وغارة على المجتمع تريد تغييره بجرة قلم بلا وعي ولا فهم ولا تبصر.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية يوصف على نطاق واسع بأنه ذو خلفية إسلامية, إلا أنه في الواقع نجح في تقديم نموذج سياسي راشد تحت مظلة ما يمكن وصفه بنظام علماني, والواقع أنه قدم مقاربة تاريخية جديدة لمسألة الإسلام السياسي تتجاوز تلك الأطروحات العتيقة للحركات الإسلامية التي تزعم لنفسها تصنيفاً في خانة الحركات التجديدية, لقد فهم أردوغان أن مصلحة الإسلام تكمن حيث مصلحة المجتمع, وليست حيث تكمن مصلحة بعض نخب الحركات الإسلامية التي تتوسل لمطامحها السياسية وتتسلط على شعوبها تحت دثار الشعارات الإسلامية التي تتركها عالقة في الهواء لا تجد سبيلها إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد.
لم يؤيد الأتراك أردوغان ويمنحونه تفويضاً لثلاث دورات لأنه رفع شعارات هلامية فضفاضة, ولكن لأنه خاطب مصالح شعبه الحقيقية ونجح في تنفيذها على أرض الواقع في زمن قياسي لذلك أمنوا بقدرته على تحقيق الاستقرار والتنمية, لقد تجلى نجاح  حزب العدالة في نهوض اقتصادي غير مسبوق لتركيا في غضون ثمانية سنوات فقط, لترتقي من عتبة الإفلاس مع مطلع القرن الجديد ليصبح حجم اقتصادها سبعمائة واربعين مليار دولار لتتبوأ مكانة سادس عشر اكبر اقتصاد في العالم, وليسجل اقتصادها معدل الاقتصاد الأكثر نمواً في القارة الأوروبية. ودور تركيا السياسي المتعاظم على الساحة الإقليمية والدولية معلوم لا يحتاج إلى تفصيل. 
سئل أردوغان ذات مرة عن سر نجاح حزب العدالة والتنمية فرد قائلاً, "لا مكان للأنا في حزبنا, وحاربنا الفساد وقدمنا ممارسة سياسية نظيفة, والأهم أننا نتكئ على تفويض شعبنا", والخبر الاهم أن هذه هي الدورة الأخيرة "للأسطى, المعلم, والمحترف" أردوغان لأن لوائح الحزب لا تسمح له, ولا لقيادات الحزب الأخرى بالترشح لأكثر من ثلاث دورات برلمانية, عجباً حتى هذا الزعيم التاريخي الذي سجل نجاحاً غير مسبوق لحزبه ولوطنه لا يستطيع الخلود في الزعامة, لأن ذلك منطق الديمقراطية ومظنة حكمة القيادة.

عن صحيفة (إيلاف) السودانية
الاربعاء 15 يونيو 2011

متاهة الخرطوم والوعود الامريكية ..

جاء المبعوث الرئاسي الأمريكي السابق الجنرال سكوت قريشن إلى الخرطوم في سبتمبر الماضي عارضاً على الحكومة السودانية خريطة طريق لتطبيع العلاقات بين البلدين, على نهج سياسة الخطوة خطوة التي ابتدعها هنري كيسنجر, والتي تربط بين مضي الخرطوم قدماً في إكمال تنفيذ متطلبات اتفاقية السلام الشامل بما في ذلك تسهيل قيام دولة الجنوب المستقلة دون عراقيل, وبين خطوات أمريكية مقابلة محدودة ومحسوبة بإتجاه التطبيع الكامل الذي لن يتم حسب العرض الأمريكي إلا بعد تسوية أزمة دارفور.
فوجئ الجنرال قريشن, حسب مصادر دبلوماسية مقربة منه, بأنه لم يجد أية صعوبة في إقناع كبار المسؤولين في الحكومة السودانية بعرضه, بل مضت مهمته بسهولة أكثر مما توقع حين أبلغوه بأن الخرطوم ستفي بالتزاماتها تجاه إكمال تنفيذ عملية السلام في كل الأحول انطلاقاً من موقف مبدئي وبغض النظر عن عرض التطبيع الأمريكي المتزامن الحطوات, وأنها تفعل ذلك لا رجاءً في الجزرة ولا خوفاً من العصا الأمريكية, واكتفى كبار رجال الحكم بتذكير المبعوث الأمريكي بخيبة الأمل في وعود التطبيع الأمريكية المبذولة بلا وفاء خاصة بعد ارتفاع الأمال التي رافقت أجواء المفاوضات وتوقيع اتفاقية السلام التي رفعت سقف التفاؤل بتطبيع وشيك ولعل ذلك كان سبباً مباشراً في إظهار مرونة زائدة, وربما تساهلاً, في تمرير بعض القضايا الخلافية التي كانت تنذر أحياناً بإجهاض العملية برمتها.
لعل الجنرال قريشن لم يمض بعيداً في دهشته من سهولة تفويت المسؤولين في الخرطوم لهذه الفرصة السانحة لاستخدام كروت الضغط القوية المتاحة في يدها وهي لضرورية وحاسمة لإكمال عملية السلام إلى نهايته, خاصة وأن ذلك كان قبل الاستفتاء على تقرير المصير بخمسة أشهر, وهو الخطوة الأكثر أهمية ومفصلية من بين كل خطوات تنفيذ استحقاقات عملية السلام,   فتجربة السياسة الأمريكية في التعاطي مع حكم الانقاذ خلال العشرين عاماً الماضية أثبتت لها دائماً أن السياسة الخارجية السودانية ظاهرة صوتية تفتقر للرؤية الاستراتيجية الواضحة الأهداف وتعوزها الحنكة الدبلوماسية قليلة الفعل ومحدودة التأثير, ولذلك تنقلب دائماً وبالاً على أصحابها, فقد حفظت واشنطن أسلوب الساسة الحكوميين في الخرطوم عن ظهر قلب, يرفعون الصوت عالياً بالشعارات المتحدية بلا رصيد من معطيات موضوعية وفعلية تسند ذلك ودون تبصر في العواقب, وما أن تتبين خطورة ردود الفعل على حتى ينهضون للبحث عن مخارج من الورطة التي أوقعوا أنفسهم فيها بلا مبرر ولا سبب وجيه, ومثلما يبدو هؤلاء الساسة متطرفون في الشعارات المتحدية العديمة الأثر, يبدون تساهلاً يفوق التوقعات في التعاون مع ما كان يتحدونه بالأمس إلى درجة ألا يطلبون مقابلاً لهذا التعاون تنازلاً بتنازل, بل ينتظرون أن تتفضل واشنطن بتفهم مدى ما بذلوه من تنازلات وتقدم المقابل الذي تختاره في الوقت الذي تراه مناسباً ثم لا تقدم شيئاً أصلاً, لأنها  تكون حصلت على ما تريد دون أن تجد ما يلزمها لتقديم المقابل.
وعهدت واشنطن سياسة شراء الزمن المفضلة لدى ساسة الحكومة في الخرطوم, ولكنها خبرت أيضاً أنهم في نهاية المطاف يستجيبون لما رفضوه بالأمس, ولا بأس إن جرى في إطار ذلك استخدام بعض المساحيق  من باب رفع الحرج أو حفظ ماء الوجه.
ولعل مصدر الغرابة المثير للعجب في أسلوب الخرطوم في إدارة سياستها الخارجية تكرارها لأخطائها أن تلدغ من الحجر ذاته ثلاث مرات وأكثر, والحكمة أن المؤمن لا يدغ من حجر واحد مرتين, كانت المرة الأولى حين تحول اتجاه السياسة الخارجية مائة وثمانين درجة من النقيض من النقيض إلى النقيض, فقد بدأت الانقاذ عهدها بالحكم مناهضة للسياسة الأمريكية وتورطت بلا حساب ولا تبصر في مصيدة الغزو العراقي للكويت, ثم في احتضان الحركات الجهادية المسلحة الموصوفة أمريكياً بالإرهاب, ولعل العذر الوحيد في ذلك أنها كانت تعيش وقتها مرحلة طفولة ثورية, وحين أدركت عواقب ذلك انقلبت على تلك العلاقات في محاولة للاقتراب أكثر من السياسة الأمريكية بتعاون غير محدود السقف في ملف مكافحة الإرهاب رجاء أن يساعد ذلك في تنظيف اسمها ورفعه من لائحة الدول الراعية للإرهاب, وأكثر من ذلك تعبيد الطريق أمامها لدخول نادي الشرعية الدولية.
ولم يعد سراً أن محاولات الخرطوم للتقرب من واشنطن التي  بدأت بعرضها إبعاد أسامة بن لادن في العام 1996, وبلغت أوجها مع مطلع القرن الجديد حين بلغ التعاون الاستخباري بين البلدين حدوداً فاق الخيال والتوقعات الأمريكية, وفتحت الخرطوم أبوابها على مصاريعها لتعب واشنطن عباً من ملفات ومعلومات بالغة الأهمية في مطاردة ومحاصرة المطلوبين أمريكياً وما كان لها أن تبلغ ذلك لولا كرم السلطات السودانية الحاتمي, وبغض النظر عن انتقادات البعض من أن ذلك التعاون تجاوز كل الخطوط الحمراء, وطنياً وإسلامياً, إلا أن وجه الغرابة يأتي من  أنها سجلت سابقة في العلاقات الدولية حين يبلغ التعاون الاستخباري بين بلدين هذا المدى البعيد, ثم لا تجد له أي أثر إيجابي على العلاقات السياسية, فقد بقيت العلاقات بين الخرطوم وواشنطن على حالها من التردي والضغوط, فقد حصلت واشنطن على كل ما تريد وأكثر ولكنها لم تكن ترى نفسه ملزمة بتقديم شئ لأن الخرطوم لم تتقن اللعب على الطريقة الأمريكية (الخطوة .. خطوة)  وأعطت ولم تستبق شيئاً وسلمت كل أوراقها بلا مقابل فوري, وتوهمت أن المبادرة بحسن النية الذي يصلح في تقوية العلاقات الشخصية يصلح كذلك في عالم السياسة وفي فن العلاقات الدولية في عالم يزداد تعقيداً.
المبرر الوحيد الذي ساقه أخيراً أحد عرابي تلك الفترة من التعاطي ذو الاتجاه الواحد مع واشنطن, أن ذلك التعاون الاستخباري المفتوح من قبل الخرطوم حمى السودان من ضربة أمريكية انتقامية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر نحو ما حدث في الهجوم المحدود على مصنع الشفاء في أعقاب تفجير سفارتي واشنطن في نيروبي ودار السلام, قد يكون ذلك وارداً أن السودان نجا من ضربة عسكرية أمريكية محتملة مثلما حدث في أفغانستان, لكن من المؤكد أن ذلك النهج المتسم بقدر غير من التواضع في فهم وإدارة ملفات السياسة الخارجية, والفطير بطبعة في عالم السياسة الدولية, لم ينج البلاد من ضربة سياسية أعمق أثراً ذلك اكتشاف واشنطن أن هلع الخرطوم من الانتقام الأمريكي جعلها تتصرف على نحو غير متزن إلى درجة أن تبذل كل هذا الجهد وتفتح خزانة أسرارها دون أن تحصل على مقابل سوى الأمل بما يمكن أن تتبرع به واشنطن, ليصبح ذلك مفتاح السياسة الأمريكية تجاه الخرطوم واسلوبها المجرب والمعتمد أي أن الخيار أمامها في التعاطي مع حكم الانقاذ ليس بين الجزرة والعصا, بل بين استخدام العصا أو وقف استخدامها أحياناً باعتباره ذلك جرزة في حد ذاته.
وتكرر السيناريو ذاته مع عملية السلام السودانية, ومع أن التفاوض والتوقيع على الاتفاقية جرى بين أطراف سودانية, إلا أنه لا جدال في أن الدور الأمريكي كان اساسياً وحاسماً في كل أوقات العملية منذ تبنى إدارة الرئيس جورج بوش الإبن لسياسة إنهاء الحرب في الجنوب, ونموذج التسوية الذي اقترحته, ثم بعثة الشيخ جون دانفورث والدور المحوري الذي لعبه في تحريك قطار التسوية, لقد جرت تلك العملية بتجاوب كامل من الحكومة السودانية, وبدرجة واسعة من المرونة, تحت وعود قاطعة بأنها مفضية لا محالة إلى تطبيع سريع ليس بين الخرطوم وواشنطن فحسب بل ومع المجتمع الدولي قاطبة, ومرة أخرى لم تكن هناك ضمانات محددة سوى الثقة في أن الثمن الوحيد المتوقع للانخراط بحماسة في اللعبة الأمريكية لتسوية الحرب الأهلية الأطول عمراً في القارة الإفريقية ستكون هي دخول حكم الانقاذ أخيراً  بعد انتظار طويل إلى نادي المجتمع الدولي مكللاً بالغار بعد إبرام اتفاقية سلام باستحقاقات والتزامات غير مسبوقة بما في ذلك خيار القبول بتقسيم البلاد, ويبدو أن أضواء الإعلام العالمي الكثيفة والاهتمام الدولي غير المسبوق الذي حظي به المفاوضون وحتى كلمات الثناء والتقدير التي أحاطت بهم مع توقيع كل برتوكول من اتفاقيات السلام  اسلمت الجميع إلى "إحساس عميق" بأنه ليس هناك حاجة لطلب ضمانات أو ربط التقدم في المفاوضات بالحصول على مقابل في تحسين العلاقات, لقد استسلم صانعو السياسية الحكومية الخارجية إلى فكرة أن التطبيع سيأتي جملة واحدة بعد التوقيع على الاتفاقية والشروع في تنفيذها, خاصة وأن ذلك سيكون أمراً لازماً لدور الضامن الدولي للاتفاقية الذي كانت واشنطن تتهيأ له. ومضت سنوات الانتقال الست ولم تظفر الخرطوم بشئ من وعود واشنطن, لتكتشف مرة أخرى أنها اشترت الترام, لتواصل الإدارة الأمريكية اتقان لعبة ترحيل الوعود إلى ما لا نهاية مع مطالب متجددة.
لعل ذلك كله ربما كان شيئاً من الماضي لولا أن أثر ذلك التعاطي الملتبس في السياسة الخارجية سيكلف الخرطوم غالياً في ما هو مقبل عليها من أيام صعبة وشديدة الوطأة, فتقسيم البلاد حدث, والانفصال اصبح واقعاً, غير أن ما يثير الإنزعاج والقلق العميق إزاء هذه التطور الخطير أن البلاد تقبل عليه وهي بلا رصيد من استعداد حقيقي لتبعاته وتداعياته, فمغامرة التسوية بكلفتها الغالية تحولت إلى مقامرة بامتياز, فربما كان مقبولاً أن يكون هذا الثمن الباهظ معقولا لو أنه أفضى إلى سلام حقيقي مستدام, وإلى تطبيع علاقات السودان مع المجتمع الدولي, وإلى إعطاء فرصة سانحة للاستقرار والنهوض, لكن أياً من هذا كله ليس واضحاً في الأفق, فقيام دولة الجنوب الجديدة يأتي ونذر الحرب تطل من جديد وإرهاصاتها لا تحتاج إلى دليل, ليس فقط بين الشمال والجنوب على منطقة ابيي المتنازع عليها, بل في مناطق الجنوب الجديد في سودان الشمال.
تبقت أيام معدودة على نهاية الفترة الانتقالية, ومسائل غاية في الأهمية وضرورية ولازمة للاستقرار لا تزال عالقة بلا حل, فقضيتا أبيي وترسيم الحدود من استحقاقات التسوية الاساسية في معادلة السلام تنتهي الفترة الانتقالية وتتجاوزهما وتخلص إلى استحقاقها الأهم تحقيق الانفصال, وقضايا فك الارتباط بين الدولتين وجلها ترتيبات حساسة خاصة في جوانبها الاقتصادية لضمان استمرار الدولتين الجديديتين قادرتين على الحياة والعيش بسلام وتعاون, تنتهي الفترة الانتقالية بلا تسوية ملفاتها, باختصار تنتهي الفترة الانتقالية ويتم التقسيم في ظل قنابل موقوتة متعددة تكفي كل واحدة منها لتفجير الحرب الشاملة مجدداً.
يحدث ذلك بسبب خطأ استراتيجي قاتل أعادت الحكومة في الخرطوم ارتكابه في شأن تعاطيها مع واشنطن, دون أن تنسى أو تتعلم شيئاً من سابق تجاربها, وهو أمر متوقع في ظل الافتقار إلى رؤية استراتيجية للحكم وإدارة ذات بصيرة مدركة للعواقب, لقد كانت خريطة الطريق الأمريكية التي عرضها الجنرال قريشن هي عين ما تحتاجه الخرطوم في ذلك التوقيت بالذات ليس من أجل التطبيع, وهو ترف سياسي في ظل التحديات الراهنة التي خلفتها تسوية نيفاشا التي يبدو أنها قسمت البلاد ولم تجلب سلاماً إن لم تكن في وارد إعادة إنتاج الحرب مجدداً, بل من أجل ضمان تنفيذ متوازن وكامل لكل استحقاقات تسوية نيفاشا حتى تفضي إلى سلام حقيقي مستدام.
لقد تعامل ساسة الحكم في الخرطوم تعاملاً قصير النظر مع الحرص الأمريكي على ضمان قيام استفتاء تقرير المصير والقبول بنتيجة الانفصال التي كان معلوماً سلفاً أنها محسومة النتيجة, ومحاولة الظهور بمظهر أخلاقي في أمر سياسي بهذا الخطورة لم تكن في محلها على الإطلاق, فإعطاء الخرطوم ضمانات قاطعة للجانب الأمريكي بالتزامها بقيام الاستفتاء في موعده والقبول بنتيجته أفقد الحكومة أهم كرت ضغط بيدها, ليس للحصول على التطبيع المزعوم, بل لضمان التنفيذ الفعلي لكل استحقاقات عملية السلام.
ولم يكن مطلوباً من الحكومة السودانية التنكر لالتزامها بتنفيذ كل استحقاقات التسوية, ولكن القبول بآخر استحقاقاتها الاستفتاء دون المرور بالاستحقاقات العالقة التي كانت تسبقه موضوعياً وعملياً لم تكن قفزة في الهواء فحسب, بل كانت مثيرة للتساؤلات الحائرة حول المعطيات التي تتخذها بها مثل هذه القرارات المهمة, ومكمن الحكمة وراءها.
لقد كان أمراً طبيعياً تماماً أن ترهن الخرطوم الوصول إلى آخر استحقاقات عملية التسوية وهو الاستفتاء بعد إكمال تنفيذ ما تسبقه من بنود وهو في هذه الحالة حسم مسألة أبيي وترسيم الحدود, هذا على أقل تقدير وإن كان ضرورياً أيضاً الاتفاق على أسس فك الارتباط عند الانفصال, لقد كان ذلك أقوى كرت بيد الخرطوم تضغط به على واشنطن لضمان حسم كل استحقاقات التسوية موضوعياً وفعلياً, بما يضمن استدامة السلام, ولكن كالمعتاد أهدرت تلك الفرصة جرياً وراء سراب التطبيع.
والوضع المأزقي الأن في أبيي, ثمرة مرة لذلك, وخير برهان على عمق الأزمة, فالعودة إلى الحرب ليس نزهة, واللجوء إلى القوة لحسم الخلاف ليس ممكناً, وأثبتت المفاوضات الجارية للخروج من هذا النفق من خلال الاستعانة بقوة أجنبية لنشرها في المنطقة  بعد سحب القوات المسلحة, أن الحلول العسكرية قصيرة النفس فضلاً عن أنها ليست مجدية. فإن كانت الخرطوم رغبت عن مقايضة الانفصال بالتنفيذ الكامل للاتفاقية قبل إجراء الاستفتاء خشية إغضاب واشنطن أو محاولة لإغرائها بتطبيع سريع, أو لمجرد تفادي الحرب, ها هي تواجه كل هذه الأمور مجتمعة لأنها لم تحسن سبل التعاطي السياسي الاستراتيجي, بل ستكلف هذه القضايا العالقة الخرطوم تدخلاً دولياً لا قبل لها به.

مستقبل علاقة الخرطوم وبكين.. فتش عن النفط ..

الزيارة الرسمية المحفوفة بالمغامرة التي أداها الرئيس عمر البشير إلى بكين, وهي أبعد مدى يصله في زيارة خارجية منذ قرار التوقيف بحقه الصادر من المحكمة الجنائية الدولية, وإصرار الصين على إتمام الزيارة وتوفير التغطية السياسية والأمنية لها على الرغم من ضغوط وانتقادات بعض القوى الدولية عليها, تشير إلى أن حجم المصالح التي تحققت للصين في السودان وتعول على المحافظة عليها حتى بعد انشطاره إلى دولتين أهم بكثير لبكين الصاعدة بقوة في موازين القوى الدولية من الخضوع للتحفظات الدولية بشأن موضوع البشير, والصين معروفة بسياستها العنيدة في مواجهة الانتقادات عندما يتعلق الأمر بمصالحها الوطنية.
ولعل ما يزعج بكين حقاً ليس المواقف الدولية فيما يتعلق بعلاقاتها مع الخرطوم, ولا انقسام السودان إلى شطرين وقد تهيأت منذ وقت مبكر للتعاطي مع هذا التطور المهم, ولكن أكثر ما يثير قلقها التأثيرات السلبية المحتملة على مصالحها في السودان جراء تقسيم البلاد, والمفارقة التي تواجه الصين أن استثماراتها الأكثر أهمية وحساسية في السودان والتي تتركز في صناعة الطاقة سيطالها أول أثار التقسيم حيث ستتوزع عملياً بين دولتين, فكما هو معلوم فإن معظم مشروعات الإنتاج النفطي, نحو ثلاثة أرباع حقول النفط, على الأقل توجد في الجنوب, في حين أن مشروعات استغلال الإنتاج النفطي, خطوط النقل والمصافي ومؤانئ التصدير, تتركز شمالاً.
ولذلك فإن المعادلة الوحيدة التي ستضمن للصين الاستمرار في الاستفادة من استثماراتها النفطية الاستراتيجية في السودان, والتي يقدر بأنها كانت توفر لها نحو سبعة بالمائة من حاجتها للنفط, هي استمرار التعاون بين دولتي الشمال والجنوب اللتان ورثتا السودان الموحد وتقسمتا أصوله على نحو يضمن لهما الاستفادة من الموارد النفطية التي تأتي استغلال مشترك للمشروعات التي اصبحت مقسمة فعلية في قطاع صناعة النفط, كما يضمن للصين استمرار تدفق النفط من هذه المنطقة الذي يغطي لها جزءاً مقدراً من احتياجاتها من الطاقة, كما أنها لا ليس في وارد القبول بخسارة الاستثمار السياسي والاقتصادي والمالي الكبير الذي عززته في السودان على مدار الخمسة عشر سنة الماضية. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الصين ليست فقط أكبر مستثمر خارجي في السودان فحسب, بل هي أيضاً الشريك التجاري الأول له, والأهم من ذلك أن الصين أصبحت أكبر دائن للسودان, وهي ديون مضمونة في مجملها بالنفط.
ومع أن المنطق يفترض أن مهمة بكين ستكون سهلة في المحافظة على مصالحها السودانية في مجال النفط, لأن للطرفين السودانيين المصلحة ذاتها, إذ أن حاجة الخرطوم وجوبا للعائدات المالية والاقتصادية التي يوفرها ضمان استمرار تدفق النفط لا تقل عن حاجة بكين لها, فالجنوب يكاد يعتمد بنسبة تقارب الثمانية وتسعين بالمائة  في إيراداته على العائدات النفطية, في حين أن إيرادات الخرطوم لا تقل عن الخمسين بالمائة في اعتمادها على النفط وما يفوق التسعين بالمائة في موارد النقد الأجنبي.
غير أن الواقع يشير إلى أنه مع تبقى أيام معدودة لانتهاء فترة الانتقال وبروز الدولتين الجديدتين, فإنهما أبعد ما يكونان من أي وقت مضى من الاتفاق على تعاون حاسم بأية صيغة كانت لتقاسم عائداته يضمن استمرار تدفق النفط بما يحقق مصالح الأطراف المختلفة, ومع إدراك قادة الشمال والجنوب للأهمية القصوى للاتفاق على مسألة  تقاسم النفط لاعتبارات بالغة الحيوية لكليهما, إلا أن تحول هذه المسألة إلى ورقة تستخدم في الضغوط المتبادلة بين الطرفين لتحقيق مكاسب في القضايا التي لا تزال عالقة من بنود اتفاقية السلام, وعلى وجه الخصوص موضوع أبيي وترسيم الحدود, أصبح يعرض استمرار تدفق النفط إلى مخاطر حقيقية.
وفي حين أن القضيتين العالقتين أبيي والحدود, إضافة إلى ذلك ترتيبات فك الارتباط بين الشمال والجنوب المتعلقة في أغلبها بأجندة اقتصادية, تحتمل الانتظار إلى حين إنضاج حلول لها في مفاوضات ممتدة بين الدولتين الوليدتين, صحيح أنها ستكون أكثر تعقيداً مما لو تم التوصل إليها إلى تسويات بين الطرفين في إطار عملية السلام, إلا أنها بطبيعتها يمكنها استيعاب عامل الوقت في انتظار تدخلات الوسطاء ونجاحهم في تقريب وجهات النظر.
غير أن الأمر مختلف تماماً في ملف النفط الذي لا يحتمل ترف التفريط في عامل الوقت, لأسباب اقتصادية ملحة سواء بالنسبة للصين المستثمر الأكبر في قطاع الصناعة النفطية, أو بالنسبة للطرفين السودانية, فضلاً عن أن خبراء مختصون أعلنوا أن توقف تدفق النفط سيتسبب في أعطاب فنية مكلفة للغاية.
ولعل هذا بالتحديد, عدم التوصل إلى اتفاق بشأن النفط, وقد حل موعد التقسيم في التاسع من يوليو, هو الذي أثار إنزعاج الصين ومخاوفها, ويفسر دعوتها للرئيس البشير لزيارة بكين في هذا التوقيت بالذات للبحث عن مخرج سريع لهذا الوضع المأزقي, إذ أن الصين لم تعد تحتمل الانتظار حتى ترى التهديدات المتبادلة بين الخرطوم وجوبا, في معركة كسر عظم غير آبهة بالتبعات العواقب الوخيمة, تتحقق باستخدام النفط في عملية آذى متبادل, لا يدفع الطرفان ثمنها فحسب, بل ستكلف دولة مثل الصين خسائر استراتيجية لا ينتظر أن تقف مكتوفة الأيدي تتفرج على ما يحدث, لقد حان الوقت لبكين التي انتظرت تسوية المسألة بغير تدخل منها, لتنتقل إلى مرحلة فرض ضغوط مباشرة على الطرفين في أمر بالغ الحيوية بالنسبة لها, ليس فقط في ما يتعلق بصناعة النفط السودانية, ولكن أيضاً خشية أن يتحول خسارة رصيدها الاستثماري الضخم في السودان والتفريط فيه إلى مثل قد يتكرر في مناطق آخرى من العالم في وقت تنتشر فيه الاستثمارات الصينية في مناطق ملتهبة كثيرة محفوفة بالمخاطر السياسية وتقبل على تلك المخاطر لأنها في حاجة ماسة للطاقة والمواد الخام لإدارة عجلتها الصناعية الجبارة النامية بقوة متزايدة.
من المؤكد أن بكين لم تدع البشير في هذا التوقيت لبحث أمور عادية تتعلق بمسألة تعزيز العلاقات الاقتصادية المستقبلية بين الصين وشمال السودان, أو فقط لطمأنة الخرطوم على استمرار التزام بكين بتوفير غطاء سياسي لها في الساحة الدولية بعد متغير التقسيم, وهي أمور كان من الممكن التأكيد عليها بوسائل مختلفة من قبل مبعوث صيني رفيع مثلاً,  بقدر ما أن أجندة الزيارة متعلقة بإظهار الاهتمام الصيني بالملف النفطي وضرورة التوصل إلى تسوية بشأنه في وقت لم يعد يحتمل أي تعويق لذلك, وهو أمر تريد بكين أن تسمع فيه الرئيس البشير من أعلى مستوى في القيادة الصينية أهمية هذه القضية بالنسبة إليها,  وهو ما اشار إليه لوي قوي جين المبعوث الصيني لإفريقيا صراحة حين أعلن في تصريح له أن زيارة الرئيس البشير "تجئ في إطار الجهود الصينية لإقناع شمال السودان وجنوبه بتسوية القضايا العالقة بينهما عن طريق الحوار والتفاوض، وذلك من خلال لقاءات القمة بين البلدين", وبالطبع فإن التأثير السلبي على الصين واضح إذا لم يتم التوصل إلى تسوية لهذه المفلات العالقة التي تستخدم فيها ورقة النفط على نحو مضر بالمصالح الصينية.
وعلى الرغم من أن المبعوث الصيني أعلن أن "الصين ليست لديها أية مصلحة خاصة في السودان وتدعم بحزم كل ما من شأنه أن يخدم مصلحة شمال السودان وجنوبه" إلا أن الواقع بالطبع لا يقر بذلك, فالصين تعمل على حماية مصالحها المشروعة بالطبع, وتحاول في سبيل ذلك كسب ثقة شطري السودان, فقد أكد ليو قوي جين أن الصين ستعترف بجنوب السودان فور استقلاله وستشارك المجتمع الدولى في عملية التنمية وإعادة الإعمار فيه على أساس التعاون المتبادل النفع والمتكافئ, كما أنها "ستعمل مع شمال السودان وجنوبه معا لتطوير علاقات الصداقة وشراكة التعاون المتبادل النفع والمتكافئ الكسب، وستشجع المزيد من الشركات ورجال الأعمال الصينيين على الاستثمار في جنوب السودان الغني بالموارد الطبيعية، لتسهم مع المجتمع الدولي في عملية التنمية وإعادة الإعمار هناك.
واللافت هنا ما اعتبره أكد السفير ليو من أن جهود الصين وإسهامها في دفع عملية السلام في السودان يحظى بدعم إيجابي ليس فقط من قبل شمال السودان وجنوبه وإنما أيضا من قبل المجتمع الدولي.
والسؤال إلى أي مدى تستطيع الصين إقناع الرئيس البشير بإبداء المرونة اللازمة لتسوية الملفات العالقة, ومن الواضح أن بكين تعول على دور محوري للبشير في إحداث التحول الذي تنتظره في أجندتها السودانية, فهي لم توجه دعوة مماثلة في الوقت الراهن لرئيس حكومة الجنوب الفريق سلفا كير, ولعلها ستفعل ذلك في وقت لاحق أو أنها حصلت منه على موافقة على مطالبها في هذا الخصوص, والملفت للانتباه أن سلفا كير أعلن في تصريح له عقب استقباله لوزير الخارجية الألماني الاسبوع الماضي, أن الجنوب لن ينفرد بايرادات النفط ويترك الشمال دون مد يد العون له، وقال "لا نريد اخذ كل عائدات النفط يجب ان نترك شيئا للشمال لإعانته في مواجهة التحديات الاقتصادية", وهو بالطبع ليس موقفاً جديداً, ولكن يمكن قراءته بدلالة جديدة في ظل التطورات الراهنة.
من المؤكد أن الصين تتوقع تجاوب الرئيس البشير مع مطالبها في رؤية حلحلة القضايا العالقة وتسويتها دون المزيد من التأخير, وتقسيم الدولة السودانية بأقل قدر ممكن من الخسائر السياسية والاقتصادية, وضمان استدامة السلام والاستقرار, وهو ما سيصب بالتأكيد في إتجاه الحفاظ على المصالح الصينية, كما أن ذلك يحقق أيضاً مصالح الأطراف السودانية المختلفة. وقد لا تحتاج بكين لأكثر من ممارسة ضغوط ناعمة على الخرطوم, من قبيل تذكيرها بوقوفها معها في الأوقات الصعبة, فلولا بكين لما أمكنها خوض مغامرة استغلال النفط في ظل ظروف حصار بالغة التعقيد, وهو أمر لا أحد يتصور كيف كانت الخرطوم ستواجه الأوضاع الاقتصادية الصعبة بغير عائداته, وأيادي بكين البيضاء على الخرطوم لا تقف على الجبهة الاقتصادية, فقد وفرت لها غطاءاً دولياً وحماية حاسمة على الجبهة السياسية, صحيح أن بكين مارست دوراً محسوباً في دعم الخرطوم على الساحة الدولية ولم تمض معها إلى نهاية الشوط, ولم تستخدم الفيتو لصالحها كما كان يأمل قادة الحكم, إذ أن لبكين حسابات ومصالح أكبر بكثير من علاقتها بالخرطوم, ولكن مع ذلك لعبت الصين دوراً مؤثراً في تخفيف الضغوط الدولية, وتقليل أثار الحصار والعقوبات الأمريكية والدولية عليها, ولعل بكين ترى أن الوقت قد حان للرئيس البشير ليرد لها بعض الجميل ومكافأتها بتسوية الأمور العالقة بشأن العلاقة مع الجنوب لضمان استدامة السلام والاستقرار, واستمرار تدفق النفط, ولا شك أن الصين ستعرض على الخرطوم الدخول في شراكات أو مشروعات اقتصادية في مجالات جديدة قد تقلل من تأثير التقسيم على القطاع الاقتصادي وتوفر تعويضاً مستقبلياً.
ومن المؤكد أن الرئيس البشير يدرك من خلال أجندة هذه الزيارة أن حسم القضايا العالقة في ملف العلاقات مع الجنوب لا تتعلق فقط باعتبارات محلية, كما أنها ليست محصورة بأجندة طرفي عملية السلام, ولكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً أيضاً بأطراف خارجية, فالخرطوم التي تتهم واشنطن وحلفائها بالوقوف إلى جانب الحركة الشعبية في شأن العلاقات المتوترة مع جوبا,   ولذلك تتخذ مواقف متشددة, ستواجه بمفارقة أنها مدعوة للتعامل بمعطيات مختلفة مع هذه الأجندة المعلقة من أجل المحافظة على العلاقات الوثيقة التي تربطها بالصين حليفها الأهم في الساحة الدولية وعلى الجبهة الاقتصادية, ومن الواضح أن الخرطوم ستظل في حاجة ملحة للاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع بكين في ظل ما تتوقعه من هجمة دولية عليها عقب التاسع من يوليو, وبقاء الأمور معلقة سيصب المزيد من الزيت على النار المشتعلة اصلاً.   

"الحركة الإسلامية" وحكم التاريخ القاسي


لم يتركوا لنا ما نقول, فقد قلنا كل ما يمكن أن يقال على مدار سنوات البحث عن سلام حقيقي, يصنعه مشروع وطني جامع, من أجل أجندة الوطن لا من أجل أجندة الساعين للخلود في السلطة, مشروع شامل يحفظ وحدة السودان ويحقق الاستقرار واستدامة السلام على قواعد متينة تكفل فعلاً لا قولاً تمكين دعائم الحرية, العدالة, المساواة, تكافوء الفرص, وتضمن الممارسة الديمقراطية كاملة غير منقوصة لكل مواطنيه بلا تمييز من أي نوع كان في أركانه الأربعة.
ومحضنا النصيحة كاملة في صحف منشورة, وبذلنا غاية الجهد ما وسعنا ذلك في بسط نصينا من الحقيقة, وقد أسمعنا من نادينا, كل ذلك ليس فقط خشية أن تتحق أسوأ مخاوفنا, ويحدث التقسيم, بل خشية أن لا يضع ذلك السطر الأخير في مأسي الوطن, بل يقود إلى أن ينفرط عقد ما تبقى منه. والتفريط مرة في وحدة السودان يعني أن التفريط ممكن مرة آخرى, ودوننا ما نشهد من إرهاصات منذرة حتى قبل أن يمضي الجنوب في سبيله.
لم يمر على السودان, منذ أن عُرف بكيانه السياسي الحالي على مدى نحو قرنين من الزمان, يوماً أكثر سوءً وبؤساً وفجيعةً من يوم الأمس, يوم حدوث تقسيم البلاد, نعم نقول التقسيم وليس انفصال الجنوب, لأنه تعبير اعتذاري وتبريري يوحي وكأن مواطنو الجنوب هم من قرروا الانفصال هكذا اعتباطاً من تلقاء أنفسهم دون نظر في الأسباب الحقيقية التي اضطرتهم إلى أضيق الطريق, لم يكن الانفصال قدراً كالموت, أو في طعمه لا مهرب منه, ولكنه نتيجة منطقية لفشل النخب الحاكمة التي تسببت في تقسيم البلاد لأنها عجزت عن المحافظة على السودان الذي ورثته بلدا واحداً.
وحقائق التاريخ القريب ووقائعه المعروفة تحدثنا أن النخبة الجنوبية لم تبادر إلى دعوى الانفصال, فقد سعت منذ منتصف القرن الماضي لإيجاد دور لها وموقع في المشروع الوطني السوداني للدولة الموحدة على قدم المساواة مع النخب الشمالية التي آل إليها الحكم بعد الاستقلال, غير أن قصر النظر السياسي والافتقار إلى رؤية وطنية استراتيجية قعد بها عن الوعي بطبيعة التعدد والتنوع العرقي والديني والثقافي والاجتماعي لمكونات البلاد, والوفاء باستحقاقاته واستيعابه مكوناً أصيلاً في بناء المشروع الوطني, واكتفت بإلحاق النخبة الجنوبية رديفاً على هامش الملعب السياسي, فكان أن ضيقت على النخبة الجنوبية واسعاً في الساحة الوطنية, لتجد نفسها مضطرة للانكفاء إلى مشروع قومي جنوبي مقابل, وكانت نتيجته المنطقية أن تفضي إلى تقسيم البلاد في نهاية الأمر.
ولو أن تقسيم السودان اقتضته اعتبارات سياسية موضوعية وأقدار لا يمكن صرفها, لربما وجدنا مبرراً وجيهاً للذين يحتفلون بحدوثه, ولكن أسوأ ما في الأمر أنه حدث على تماس العرق والدين, أن يقود الفشل السياسي للمشروع الوطني في استيعاب التنوع الفريد لمكونات البلاد المتعددة, إلى أن يكون التمييز بسبب العرق والدين دافعاً للجنوبيين للبحث عن التحرر والانعتاق واحترام الذات بعيداً.
ومما يؤسف له أن قادة الحكم الحالي اعتبروا فصل الجنوب مدعاة لإنهاء أي جدل حول الهوية واحترام التنوع والتعدد في الشمال, مما يعضد من النظرية القائلة بأن التقسيم هدف للحاكمين في الخرطوم قبل أن يكون الانفصال مطلباً للجنوبيين, ولذلك لم يكن أحد هنا مهتماً وحريصاً على تنفيذ بنود اتفاقية السلام, بروحها ومقاصدها لا نصوصها فحسب, على النحو الذي يخلق نظاماُ سياسياً جديداً يتجاوز النظام السياسي المعطوب ويحقق تحولاً ديمقراطياً حقيقياً يعزز خيار الحفاظ على وحدة البلاد الذي شددت الاتفاقية على أولويته.
ووصف التقسيم بحسبانه كارثة وطنية, ليس حديثاً عاطفياً ولا هو من باب البكاء على اللبن المسكوب, بل هو كذلك لأن حدث خارج سياق حسن التدبير السياسي وضد مصلحة الأمة وسباحة عكس تيار التاريخ, فليس في ما حدث ما يدعو إلى الفخر وإلى المباهاة, بل يسجل لحظة انكسار تاريخية وهزيمة وطنية. وكما قال وزير الخارجية التركي المفكر الاستراتيجي أحمد داؤد أوغلو في حوار مع الكاتب ناصحاً القادة السودانيين إلى ضرورة الانتباه إلى أن "أننا نعيش في عصر تُغير فيه حدود الدول من أجل خلق كيانات أكبر, وليس لتوليد وحدات أصغر". فإذا كانت الدول الأوروبية بكل مكانتها وقدراتها تدفع بقوة تجربتها في الاتحاد الأوروبي إلى الأمام ليكون لها مكان ودور في عالم اليوم, فما بال بلد لا يزال ضمن الدول الأقل نمواً؟.
وبالضرورة فإن تقسيم السودان ونهاية مشروع الدولة الوطنية الموحدة يمثل فشلاً ذريعاً للنخبة الشمالية التي عجزت على مدى أكثر من نصف قرنق عن الإجابة على السؤال الأهم, عن كيفية الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية للسودان, ومن نافلة القول أن "الحركة الإسلامية السودانية" تتحمل المسؤولية التاريخية الأكبر وهي التي سوغت لنفسها الانقلاب عسكرياً في العام 1989م, على نظام ديمقراطي بدعوى انقاذ البلاد والحفاظ على وحدة الوطن, تراباً وشعباً, وهدفها المعلن حينها كان مواجهة مشروع الحركة الشعبية الذي شهد صعوداً وتمدداً في الساحة الوطنية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
وانتدبت "الحركة الإسلامية" نفسها لتحمل هذه المسؤولية ملقية باللوم في تنامي قوة "الحركة الشعبية" على ضعف وقلة حيلة الأحزاب السياسية الحاكمة وقتها. ولذلك فإن الوصول إلى محطة تقسيم السودان وإنهاء مشروع الدولة الوطنية الموحدة, ونجاح "الحركة الشعبية" في مسعاها يشكل فشلاً ذريعاً للمشروع السياسي لانقلاب "الإنقاذ" بإخفاقه في تحقيق أهم مبررات قيامه.
كما يعني أيضاً أن المشروع السياسي ل"الحركة الإسلامية السودانية" خسر معركته الأساسية, وأخفق في المهمة التي انتدب نفسه لها في مواجهة المشروع القومي الجنوبي, حيث تحولت مغامرة انقلابها العسكري إلى كارثة وطنية غير مسبوقة.
لقد تعددت أنظمة الحكم التي مرت على البلاد ومع الجدل حول تقييمها إلا أنا أياً منها لم يصل إخفاقه إلى حد تمزيق وحدة البلاد, فقد خسرنا الوحدة ولم نكسب السلام,  خاصة أن حدوث التقسيم بذهاب الجنوب لا يعني نهاية القصة, فالحفاظ على وحدة ما تبقى من شمال السودان أمر محل تساؤل وشكوك مع بروز أزمات تبعات وتداعيات التقسيم في ما بات يعرف بقضايا الجنوب الجديد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, وضبابية مستقبل الوضع في دارفور, وحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي السائدة.
حقاً لقد حدث التقسيم, وتحققت أسوأ ىمخاوفنا, وذهب "السودان" القديم في ذمة التاريخ الذي سيصدر حكمه القاسي, الذي لا يرحم, على الذين قادوا السودان إلى هذا الحصاد المر والمصير البائس.

عن صحيفة "إيلاف" السودانية
الأحد 10 يوليو 2011

جنوب السودان .. فرص وتحديات ما بعد الاستقلال

يشكل استقلال جنوب السودان, وولادة الدولة الرابعة والخمسين في القارة الإفريقية, حدثاً تاريخياً مفصلياً بالنسبة للدولة السودانية وكذلك للقارة السمراء, يتعدى مجرد تغيير الحدود الجغرافية للبلد المنقسم, إلى إنهاء حقبة كاملة في تاريخه السياسي, بل إن تبعاته وتداعياته ستؤدي بالضرورة إلى بروز معطيات جديدة تعيد ترتيب الحقائق والوقائع الجيوسياسية في المنطقة, وإلى خلق معادلات استراتيجية جديدة.

نهاية حقبة "السودان القديم"
استقلال دولة الجنوب, التي تشكل مساحتها البالغة ستمائة وأربعون ألف كيلومتر مربعاً ربع مساحة السودان, ويمثل مواطنوه البالغ تعدادهم ثمانية ملايين نسمة خمس سكانه, يعني عملياً نهاية حقبة تاريخية تشرف على القرنين في تاريخ السودان الحديث الذي بدأ مشروع الدولة الموحدة فيه يتشكل مع بواكير الفتح التركي المصري في عام 1821 على يد محمد علي باشا.
ورثت النخبة السودانية الشمالية, بعد الاستقلال في العام 1956, الوحدة الجغرافية للبلاد التي خلفها الحكم الثنائي المصري البريطاني, ولكنها أخفقت على امتداد طيفها السياسي وأنظمة الحكم المتعاقبة على مدى أكثر من نصف قرن من صنع مشروع وطني جامع يحول تلك الوحدة الجغرافية التي صنعتها إرادة ومصالح استعمارية من وحدة كيان جغرافي فحسب إلى وحدة كيان وطني وبناء أمة متجانسة.
وتقسيم السودان, بولادة دولة الجنوب المستقلة, يكتب نهاية حقبة "السودان القديم", التعبير المقابل لمشروع "السودان الجديد" الذي أطلقته الحركة الشعبية لتحرير السودان, بكل دلالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ومشروعه الوطني الذي أصبح في ذمة التاريخ.

صراع النخبتين الشمالية والجنوبية

ولا شك أن هذا الحدث يعد انتصاراً لا مراء فيه لمشروع "الحركة الشعبية" بزعامة الراحل جون قرنق التي ورثت نضال النخبة الجنوبية وسعيها منذ منتصف القرن الماضي لإيجاد موقع لها ودور في المشروع الوطني السوداني للدولة الموحدة على قدم المساواة مع النخبة الشمالية التي آل إليها الحكم بعد الاستقلال, غير أن قصر النظر السياسي والافتقار إلى رؤية وطنية استراتيجية قعد بها عن الوعي بطبيعة التعدد والتنوع العرقي والديني والثقافي والاجتماعي لمكونات البلاد, وما يترتب عليه من استحقاقات واستيعاب هذا الوعي الذي يشكل مكوناً أصيلاً في بناء المشروع الوطني, واكتفت النخبة الشمالية بإلحاق النخبة الجنوبية على هامش الملعب السياسي, فكان أن بادرت النخبة الجنوبية بالدعوة إلى مشروع قومي جنوبي مقابل أفضت نتيجته المنطقية إلى تقسيم البلاد في نهاية الأمر.
صحيح أن الحركة الشعبية نجحت بالانفصال في إسقاط "السودان القديم" ومشروعه الوطني, ولكنها في الوقت نفسه لم تنجح في تحقيق حلم زعيمها جون قرنق, ومشروعها السياسي المعلن بإقامة "سودان جديد" يحافظ على وحدة البلاد على أسس جديدة تدعو لها وتعتبرها لازمة لتحقيق المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين كل مواطنيه وتستوعب تعدد وتنوع مكونات المجتمعات السودانية المتعددة.
وبالضرورة فإن تقسيم السودان ونهاية مشروع الدولة الوطنية الموحدة يمثل فشلاً ذريعاً للنخبة الشمالية التي عجزت على مدى أكثر من نصف قرنق عن الإجابة على السؤال الأهم عن كيفية الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية للسودان, ومن نافلة القول إن "الحركة الإسلامية السودانية" بزعامة حسن الترابي تتحمل المسؤولية التاريخية الأكبر وهي التي سوغت لنفسها الانقلاب عسكرياً في العام 1989, على نظام ديمقراطي بدعوى إنقاذ البلاد والحفاظ على وحدة الوطن, تراباً وشعباً, وهدفها المعلن حينها كان مواجهة مشروع الحركة الشعبية الذي شهد صعوداً وتمدداً في الساحة الوطنية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
وانتدبت "الحركة الإسلامية" نفسها لتحمل هذه المسؤولية ملقية باللوم في تنامي مشروع الحركة الشعبية على ضعف وقلة حيلة الأحزاب السياسية الحاكمة وقتها. ولذلك فإن الوصول إلى محطة تقسيم السودان وإنهاء مشروع الدولة الوطنية الموحدة, ونجاح "الحركة الشعبية" في مساعيها يشكل فشلاً ذريعاً للمشروع السياسي لانقلاب "الإنقاذ" بإخفاقه في تحقيق أهم مبرراته, كما يعني أيضاً أن المشروع السياسي "للحركة الإسلامية السودانية" خسر معركته الأساسية, وأخفق في المهمة التي انتدب نفسه لها في مواجهة المشروع القومي الجنوبي بقيادة الحركة الشعبية, خاصة أن انفصال الجنوب لا يعني نهاية القصة, فالحفاظ على وحدة ما تبقى من شمال السودان أمر محل تساؤل وشكوك مع بروز أزمات تبعات وتداعيات التقسيم في ما بات يعرف بقضايا الجنوب الجديد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, وضبابية مستقبل الوضع في دارفور, وحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي السائدة.

الثوابت الإفريقية والحدود الموروثة عن الاستعمار

يمثل استقلال جنوب السودان وبروز دولته الجديدة تحدياً استثنائياً للقارة الإفريقية على وجه الخصوص, فقد مرت عشرون عاماً منذ شهدت القارة السمراء أول سابقة تقسيم دولة إثيوبيا خروجاً على توافق الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية على ضرورة الحفاظ على الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري خشية انفراط عقد الاستقرار، وتفادي الحروب الأهلية في القارة التي رسمت حدود دولها في أغلب الأحيان بإرادة خارجية دون اعتبارات موضوعية, فقد كان مألوفاً أنه عند تلاقي مصالح وجنود الدول الأوروبية المستعمرة تتم صناعة الحدود الجغرافية للدول الإفريقية.
ولئن جاء انفصال إريتريا عن إثيوبيا في العام 1991, ثم استقلالها رسمياً بعد ذلك بعامين, بعد نضال استمر ثلاثة عقود لإنهاء حالة ضم إثيوبيا لإريتريا التي كانت تحت الانتداب الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة إيطاليا التي كانت تحتلها, ولئن تمت تلك السابقة دون أن تثير قلق القادة الأفارقة بحكم الوعي بالخلفية السياسية لتلك القضية, فإن استقلال جنوب السودان, وعلى الرغم من تعاطف أغلب الأفارقة مع مطالب الجنوبيين, يثير الكثير من المخاوف في الأوساط الإفريقية خشية من تأثير تبعاته وتداعياته.
إن تقسيم السودان حَدَثَ على تماس العرق والدين أي أن اعتبارات الخلافات العرقية والدينية والعجز عن استيعابها في مشروع وطني يحفظ وحدة الكيان السياسي للبلاد كان السبب الرئيس في الانفصال, وهو ما ينذر بقنابل موقوتة في قارة لا تنقصها الأزمات المتعلقة بتماس العرق والدين, ولقد أصبح هذا النموذج سابقة, وهو ما انتبه الحكماء والقادة الأفارقة إلى خطورة حدوثه منذ مطلع ستينيات القرن الماضي ودعوا لتفاديه عندما حذروا من المساس بحدود الدول الموروثة من الاستعمار لأي أسباب كانت خشية تداعي الدول والمجتمعات.

مكامن القوة وعواملها في دولة الجنوب
ما إن ينفض الاحتفال المفعم بالمشاعر الجياشة في جوبا فرحة بالاستقلال وتحقيق الحلم المنتظر طويلاً, حتى تأتي ساعة الحقيقة حيث يتواصل البحث عن إجابة عن السؤال المؤرق الذي يشغل بال القادة الجنوبيين, وطالما أثار أيضاً قلق حلفائهم الدوليين, هل تستطيع النخبة الجنوبية بناء دولة جديدة قادرة على الحياة والبقاء مستقرة, وبناء أمة متجانسة تتوفر لها أسباب التعايش؟ أم تتحقق تمنيات خصومها الذين يراهنون على عجزها عن الوفاء باستحقاقات بناء الدولة والحفاظ على وحدة واستقرار كيانها وشعبها, ويتوقعون قدرتها على الصمود.
في الواقع لا ينقص جنوب السودان شيئاً من أسباب بناء الدولة المستقلة القادرة على البقاء مما يتوفر لعشرات الدول الإفريقية التي سبقتها في الاستقلال, وإن تفاوتت في قدراتها ومدى نجاحها, فمن ناحية عملية يمتلك الجنوب الموارد البشرية والطبيعية والجدوى السياسية والاقتصادية لبناء الدولة الجديدة, ولكن كشأن تجارب الدول الأخرى تبقى الإجابة عن سؤال مدى الاستفادة من هذه الفرصة المتاحة والقدرة على التعاطي مع تحديات البناء والتأسيس مرهونة برؤى وقدرات وأساليب النخبة الجنوبية في الحكم وقدرتها على تأسيس وإدارة الدولة الوليدة.
والسؤال المطروح هو: هل ستقدم هذه النخبة الحاكمة نموذج قادة الدول الذين امتلكوا البصيرة والرؤى الإستراتيجية والتخطيط السليم والأداء التنفيذي الفعال في بناء أوطانهم, والأهم من ذلك تقديم هموم مواطنيهم وطموحاتهم وأجندة أوطانهم على أجندتهم الشخصية, أم يغرقون في نموذج النخب الحاكمة التي تصادر أحلام شعوبها وتختصر الأجندة الوطنية في مكاسبها الذاتية ومصالحها الضيقة, وعدم تورعها عن التورط في فساد الحكم فقط من أجل الاستئثار بالسلطة بأي ثمن؟.
يملك الجنوب العديد من أسباب القوة السياسية والاقتصادية, بعضها ذاتي والآخر توفره عوامل خارجية. ولعل في مقدمة ذلك القوة المعنوية الهائلة التي يتمتع بها حالياً شعبه المتطلع لبناء دولته المستقلة حديثاً, تحقيقاً لتوق قديم للاستقلال والتحرر والانعتاق, وتحقيقاً لحلم إقامة وطن يحسون فيه أنهم مواطنون من الدرجة الأولى ولا يخشون فيه تمييزاً عرقياً أو دينياً وهو أمر طالما انتظروه, وتشكل هذه القوة المعنوية عاملاً مهماً في توفير الطاقات لبناء الدولة المنشودة وتحقيق الطموحات المرجوة, وتخييباً لظن المراهنين على ولادة دولة فاشلة.

خصائص الموقع الجيوسياسي
ومن مقومات القوة الذاتية لدولة الجنوب موقعها الجيوسياسي, فهي تجاور ست دول, شمال السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والكنغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى, مما يمنحها فرصة الاستفادة من مساعي هذه الدول للحفاظ على مصالحها الحالية, أو تحقيق مصالح جديدة, وتنافسها من أجل خلق علاقات مميزة مع الدولة الجديدة. مما يجعلها لاعباً مؤثراً في لعبة التوازنات الإقليمية ويفتح لها الباب لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
كما أن موقعها الجغرافي في منطقة مهمة في حسابات الاستراتيجيات والمصالح الدولية, يمنحها بعداً أكثر أهمية للقوى الباحثة عن موطئ قدم ووجود في هذه المنطقة الإستراتيجية من القارة الإفريقية، لاسيما إسرائيل المدركة لأهمية الورقة الجنوبية في توازناتها الإقليمية, وقد ظلت إسرائيل لاعباً فاعلاً من وراء الكواليس في المسألة الجنوبية وقدمت دعماً مؤثراً للحركات الجنوبية الثائرة منذ أواخر الستينيات وهو أمر ليس سراً. كشف جوزيف لاقو زعيم حركة إنيانيا في مذكراته عن تفاصيل تأسيس تلك العلاقة. وقد أصبحت دولة الجنوب مستقلة فسيحرر ذلك الطرفين ويمكنهم من تحويل تلك العلاقة المستترة إلى علاقة مفتوحة الآفاق, وتمتلك القدرة في التأثير على معادلات وتوازنات القوة في الإقليم مما يحقق لدولة الجنوب فرصة سانحة بفعل هذا الوزن السياسي للاستثمار في موقعها الجغرافي.
ولعل هذه الحقيقة بالذات هي التي ظلت مصدر قلق بالنسبة لمصر حيث جعلت فصل الجنوب خطاً أحمر في استراتيجيتها وقاومت محاولة تقسيم السودان طويلاً, قبل أن تجد نفسها مضطرة للتعامل مع الأمر الواقع وتتحول باتجاه كسب ود الجنوبيين وإظهار الاستعداد لدعم دولة الجنوب الجديدة, وهو مكسب مهم أظهر أهمية عامل قوة الموقع الجغرافي, وإمكانية تحقيقه لمصالح مهمة لدولة الجنوب
العامل الخارجي.. أي دور للعراب الأمريكي
أما أهم عوامل القوة الخارجية التي تصب في مصلحة دولة الجنوب فهو بلا شك أنها صنعت على عين الولايات المتحدة, فالرعاية الأمريكية المباشرة والحثيثة للقضية الجنوبية على مدار العقدين الماضيين شكل مصدر قوة ودعم حاسم لجنوب السودان. والملاحظ أنه على الرغم من أن مسألة الجنوب ظلت حاضرة بقوة في السياسة السودانية منذ منتصف القرن الماضي, إلا أن الولايات المتحدة لم تشكل حضوراً فاعلاً فيها إلا خلال العشرين سنة الماضية, حيث تركز الدور الأمريكي خلال العشرية الأولى على العمل الإنساني والإغاثي, في ما تركز بشدة خلال العشرية الثانية على لعب دور حاسم على الصعيد السياسي في البحث عن سبل إنهاء الحرب بتسوية سياسية.
من المؤكد أن واشنطن لعبت الدور الرئيس في رسم خريطة الطريق وفي حث الفرقاء على التفاوض حتى تم إبرام اتفاقية السلام الشامل, كما ثابرت على الاستمرار في فرض الضغوط والمتابعة اللصيقة لاحقاً لتنفيذ بنودها حتى وصلت إلى محطتها النهائية بتحقيق الانفصال.
وعلى الرغم من الإدارة الأمريكية تنفي ترجيحها ودعمها لخيار الانفصال, فثمة جدل كثيف حول ما إذا كانت واشنطن عملت على تشجيع الجنوبيين على الانفصال أو أنها اضطرت للتعامل مع رغبة جنوبية عارمة للاستقلال, والموقف الرسمي الذي أعلنه الرئيس باراك أوباما في إستراتيجيته تجاه السودان أخذ منحى الموقف المحايد الذي ترك الخيار لمواطني الجنوب وأكد الحرص على استدامة السلام في حالة استمرار وحدة السودان, أو ولادة دولتين قادرتين على الحياة والتعايش بسلام في حالة الانفصال.
وفي كل الأحوال فإن الإدارة الأمريكية بدعم جماعات الضغط المؤيدة للجنوبيين تعتبر نفسها عراب الدولة الجنوبية المستقلة, وتتحمل مسؤولية خاصة تجاهها تجعلها متكفلة بحمايتها ورعايتها وتوفير أسباب الحياة لوجودها, وضامنة الدعم الدولي لها سياسياً واقتصادياً.
ومع أنه لا توجد مصالح أمريكية معلومة تفسر اهتمام واشنطن ودورها المحوري المتزايد في الشأن الجنوبي, إلا أنه على أقل تقدير يمكن القول إن الولايات المتحدة تعتبر دورها الحاسم في إنهاء أطول حرب أهلية في القارة الإفريقية, وتنفيذ اتفاقية السلام التي أفضت إلى ميلاد دولة الجنوب, قصة نجاح كبيرة للسياسة الخارجية الأمريكية الساعية لإنجاز بهذا الحجم في ظل الانتقادات المريرة لسياستها الخارجية خاصة في الصراع العربي الإسرائيلي, وفي حربيها في العراق وأفغانستان.
اقتصاد جنوب السودان .. قدرات وتحديات
على الصعيد الاقتصادي تملك دولة الجنوب مقومات مهمة, ولعل الموارد النفطية المحققة تأتي في الطليعة, فثلاثة أرباع الحقول النفطية السودانية التي تنتج نحو نصف مليون برميل يومياً توجد ضمن حدود دولة الجنوب, فضلاً عن الموارد الطبيعية الكبيرة الكامنة في القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني, وفي قطاع التعدين خاصة الذهب والمعادن الأخرى, توفر كلها عوامل جاذبة للمستثمرين الباحثين عن فرص في أرض بكر تحتاج للاستثمار في البنية التحتية, في الخدمات, والسلع.
ربما يتفق المحللون على أن أكبر التحديات التي تواجه دولة الجنوب الوليدة قدرتها على التماسك الداخلي في ظل طبيعة تركيبة المجتمعات الجنوبية المرتكزة على تجذر الانتماء القبلي, فعلى الرغم من أن الاستقلال يشكل دافعاً معنوياً مهماً للجنوبيين إلا أنه على الجانب الآخر يمثل تحدياً بالغ الأهمية, فالموقف النفسي المشترك تجاه الشمال كان عامل توحيد أساسي للقوى الاجتماعية في الجنوب إلى درجة أن استقر في الوعي العام أن الجنوب يمثل كتلة بشرية واحدة وموقفاً واحداً, غير أن انتفاء "العامل الشمالي" في توحيد الجنوبيين يخلف واقعاً جديداً يضعهم في مواجهة مباشرة مع واقع التعدد القبلي المحلي الذي لا يخلو أيضاً من عوامل فرز أخرى بسبب وجود الاستعلاء العرقي في رؤية القبائل الجنوبية لبعضها البعض, فضلاً عن وجود أسباب أخرى للصراع للاستحواذ على النفوذ أو الموارد من أجل البقاء.
وأورد تقرير دولي صادر عن الأمم المتحدة أخيراً أن نحو ألفي شخص لقوا حتفهم بسبب الحروب القبلية الداخلية بجنوب السودان في الأشهر الأخيرة كما نزح عشرات الآلاف، ووصف التقرير الدولي خسائر الاقتتال القبلي في الجنوب بأنها تفوق تلك التي حدثت في الفترة نفسها في إقليم دارفور الذي لا يزال يبحث عن السلام. وعلى الرغم من أن الحركة الشعبية تتهم المؤتمر الوطني الحاكم بتأجيج هذه الصراعات, إلا أن الثابت أن هذه النزعات القبلية وطبيعة دينامياتها الداخلية تمتد بجذورها إلى تاريخ بعيد يتجاوز الصراع الحالي بين الشمال والجنوب.
على أن ما يزيد من خطورة النزعات القبلية أنها تستخدم كأحد عوامل حسم التنافس والصراع على النفوذ داخل "الحركة الشعبية", فمن المؤكد أن "الحركة الشعبية" نجحت على مدار العقود الثلاثة الماضية منذ تأسيسها في العام 1983, في تقديم نفسها كممثل وحيد وشرعي للمطالب الجنوبية, وتأسست على قواعد عابرة للانتماءات القبلية, ونجحت إلى درجة كبيرة في الحفاظ على تماسكها الداخلي وتجاوزت بعض محاولات الانشقاق عليها, وامتد ذلك النجاح أيضاً بعد غياب الشخصية الكاريزمية لزعيمها الراحل جون قرنق, فخليفته سلفا كير أظهر براعة في تجاوز المرحلة الانتقالية البالغة الحساسية لعملية السلام بحركة موحدة حتى تحقيق الاستقلال.
ومن المؤكد أن الحركة الشعبية تواجه بعد إعلان الدولة الجديدة تحدياً غير مسبوق, فهل ستتمكن من المحافظة على تماسكها الداخلي ودورها في ظل الواقع الجديد؟ أم أنه ستحدث عملية فرز وإعادة تشكيل لموازين القوى داخلها, إذ ليس سراً وجود تباين وصراع بين أجنحة متعددة ظل تحت السيطرة بدافع الرغبة في عدم عرقلة مسار تحقيق الاستقلال, وبما أن قيادات الحركة الشعبية تمثل انتماءات قبلية مختلفة, فمن المحتمل أن يؤدي الصراع على كسب النفوذ في الدولة الجديدة إلى استدعاء الروح القبلية وتحريك نزعاتها وأدواتها مما يزيد من تعقيد الأوضاع الأمنية وانعكاس ذلك بالضرورة على تماسك واستقرار الدولة الوليدة.
التحدي الثاني الذي يواجه الجنوب يتصل بضعف البنية التحتية لدولاب الخدمة المدنية, والافتقار إلى مؤسسات الدولة الفاعلة التي تمتلك رصيداً معقولاً ولازماً من التقاليد والنظم المرعية في إدارة شؤون الحكم على نحو يضمن سلامة بناء كيان الدولة, وهو أمر يعود من جهة إلى تطاول أمد الحرب الأهلية, وكذلك إلى عدم وجود حياة مدنية مستقرة في الجنوب تتراكم فيها الخبرات, إلى جانب أن هناك اتهاما موجها للنخب الجنوبية التي توفرت لها تجارب بالقصور في مدى فهمها للمسؤولية العامة والتزامها بمقتضيات ذلك.
وللحركة الشعبية نصيب كبير من المسؤولية في عدم التهيؤ بدرجة كافية لمتطلبات إدارة الدولة في مرحلة الاستقلال وهي التي حكمت الجنوب منفردة على مدار السنوات الست الماضية, فحكومة الجنوب لم تنقصها الموارد وقد كان النفط يدر عليها دخلاً مقدراً, فضلاً عن بعض المساعدات الدولية التي تلقتها, ولكنها في المقابل حققت القليل من الإنجازات الفعلية على أرض الواقع بدرجة تردم الهوة بين واقع التخلف المدقع, واحتياجات بناء الدولة, وقد تعرضت لانتقادات لاذعة من حلفائها بسبب تفشي ظاهرة الفساد في أوساط النخبة الحاكمة. بل إن بعض المانحين الدوليين أحجموا عن الوفاء بالتزامات ومساعدات اقتصادية تعهدوا به خشية أن تصب في جيوب المتنفذين, ولا تجد المشروعات المستهدفة طريقها للتنفيذ.
والتحدي الآخر الذي يواجه الجنوب يتعلق بالمقومات الاقتصادية لبناء الدولة, فالمعلوم أن عائدات النفط التي كانت تتقاسمها حكومة الجنوب مع الحكومة المركزية تشكل نحو ثمانية وتسعين بالمائة من إيرادات موازنتها العامة, وعلى الرغم من أنه لم يتم حتى الآن الاتفاق على صيغة جديدة بشأن تقاسم عائدات النفط مع الخرطوم, وهو أمر لا مناص منه بسبب أن النفط المنتج في الجنوب لا يمكن استغلاله تجارياً وتصديره إلا عبر المنشآت الواقعة في الشمال, فليس من المنظور أن تكون هذه العائدات, حتى في ظل اتفاق مع الشمال, كافية لتمويل خزينة الدولة الجديدة في ظل عدم وجود مصادر أخرى حقيقية للدخل.
والاعتماد شبه الكامل لدولة الجنوب على العائدات النفطية يضعها أمام مأزق أكبر خلال الفترة القليلة القادمة, فقد لفت تقرير أعده خبراء نرويجيون إلى أن الثروة النفطية للجنوب آخذة في النفاد في غضون خمس سنوات ما لم يتم تطوير الحقول الحالية أو النجاح في استكشافات نفطية جديدة.
وإنشاء بدائل اقتصادية توفر مداخيل للدولة الجديدة يتطلب انتظار عدد من السنوات في ضوء الضعف الشديد للبنية التحتية الضرورية لتشجيع وجذب الاستثمارات الخارجية, والتي تساعد على تحريك الموارد الطبيعية الكامنة واستغلالها اقتصادياً. ومن الواضح أن هذه التحديات الجمة على الجبهة الاقتصادية ستجعل دولة الجنوب تعتمد بدرجة كبيرة على المعونات الخارجية لتغطية العجز الكبير في مواردها المالية.
ولعل ذلك قد يخفف إلى حد ما الضغوط الاقتصادية الهائلة التي تجابهها دولة الجنوب, إلا أن ذلك لن يشكل حلاً جذرياً يعول عليه, خاصة في ضوء التجربة العملية, فالمجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة وحلفاءها الذين أظهروا حماسة كبيرة لعملية السلام السودانية وتعهدوا ببضعة مليارات من الدولارات في مؤتمر دولي عقد في أوسلو بعض أشهر قليلة من توقيع الاتفاقية لدعم السلام وإعادة التعمير ومساعدة الجنوب على تجاوز آثار الحرب, لم يف أكثرهم إلا بنذر يسير من تلك التعهدات, وليس واضحاً ما الذي يحدث في المستقبل لما أعلنته الإدارة الأمريكية من أنها بصدد حث الأمم المتحدة على تبني عملية دعم للدولة الجديدة.
واللافت أن الولايات المتحدة نفسها على الرغم من أنها نهضت للقيام بدور العراب للدولة الجنوبية إلا أنها لم تساعد الجنوبيين على النحو الذي كانوا ينتظرونه فالمساعدات الأمريكية لحكومة الجنوب لا تتعدى الثلاثمائة مليون دولار سنوياً, ولم تسهم بصورة فعالة في البنيات التحتية للجنوب.
علاقة الجنوب والشمال مسألة حتمية
تبقى طبيعة العلاقة مع الشمال التحدي الأكبر الذي يواجه الدولة الجنوبية, وهي علاقة يسودها في الوقت الراهن قدر كبير من الالتباس وعدم وضوح الرؤية المستقبلية بشأنها من قبل الطرفين, فالانفصال فصم عرى العلاقة السياسية بين الشمال والجنوب في بعدها السيادي, إلا أن ذلك لم يحسم إلا وجهاً واحداً من وجوه العلاقات المتشابكة بين الطرفين التي تشبه إلى حد كبير العلاقة بين توأم سيامي يشتركان في أكثر الأجهزة الحيوية التي تبقيهما معاً حيين, فإذا ذهبت تفصلهما فسيعني ذلك القضاء على أحدهما إن لم يقض عليهما معاً.
فمع حدود مشتركة بينهما يبلغ طولها ألفين ومائتي كيلومتر, يعيش على جانبيهما أغلب سكان الشمال والجنوب, وتتداخل أسباب الحياة للبشر والحيوان وسبل كسب العيش العابرة للحدود, وقضية أبيي مثال حي. وحقيقة أن استغلال النفط لتوفير الموارد المالية التي يعتمد عليها الطرفان ليس ممكناً ولا وارداً بغير تعاونهما بسبب توزع منشآت الصناعة النفطية بين الشمال والجنوب على نحو يجعل تكاملهما حتمياً, كل تلك الأسباب تجعل مسألة وجود علاقة خاصة بين دولتي السودان المنقسمتين تميزهما عن كل علاقاتهما مع دول الجوار أمراً لا يحتمل رهاناً آخر.
فمن ناحية موضوعية تبقى أسباب التواصل والتعاون بين دولتي الشمال والجنوب أمراً لا فكاك منه, وتؤكد تصريحات القادة السياسيين في الحزبين الحاكمين على هذه الحقائق, ولكن عندما نأتي لأرض الواقع تبقى الحقيقة هي أن هناك قضايا بالغة الخطورة لا تزال عالقة بلا حل, وأن تصريحات السياسيين المتفائلة وحدها لا تكفي. إضافة إلى أن التوجس والتوتر والاتهامات المتبادلة ظلت هي السمة الرئيسة لعلاقة طرفي اتفاقية السلام على مدار السنوات الماضية على الرغم من الشراكة السياسية بينهما التي اقتضتها ضرورة تنفيذ الاتفاقية.
عبرة الحرب الإثيوبية الإريترية
والعبرة في التجربة الإثيوبية الإريترية ماثلة إذ أنه على الرغم من حدوث التقسيم بتراض تام بين قادة البلدين, وقد جمع التحالف السياسي والعسكري بين الحزبين الحاكمين في أديس أبابا وأسمرا, إبان النضال المشترك ضد الحكم الإمبراطوري ثم الشيوعي بقيادة منقستو هايلي مريام ونجاحهما معاً في إسقاطه, إضافة إلى حقيقة أن النخبتين الحاكمتين تستندان إلى خلفية دينية وعرقية واحدة , ومع ذلك لم يحل دون دخول الطرفين في حرب ضروس بعد سنوات قليلة من استقلال إريتريا بسبب صراع المصالح الوطنية للدولتين الذي حول تحالفهما إلى خصومة بائنة , ولا يزال العداء بينهما محتدماً ونذر تجدد الحرب بينهما قائمة.
وهو ما يثير تساؤلات بشأن المستقبل الذي ينتظر العلاقة بين دولتي شمال وجنوب السودان, إذ أنه على الرغم من ظاهر التراضي الذي تم به الانفصال, وإدراك أن تحقيق المصالح المشتركة للدولتين أمر يفرض تعاونهما, إلا أن خلفية التقسيم الذي تم على تماس العرق والدين, وصعوبة فك الارتباط بين المصالح المتشابكة للدولة المنقسمة, وبقاء قضايا محورية عالقة بالغة التعقيد عصية على الحلول حتى الآن, فضلاً عن الصراع الذي يغذيه تنافس القوى الإقليمية لتحقيق مصالحها توفر كلها وقوداً كافياً لإشعال حرائق حروب مباشرة بينهما أو بالوكالة.